إعادة اكتشاف فيلم مصري مختلف "صورة"مدكور ثابت
أن قراءة فيلم ما أمر غير معتاد في كتاباتنا النقدية، ولكننا نواجه فيلما غير عادي، حيث لا يمكن الكلام فيه عن "التصوير الرائع"أو "الإضاءة الموحية"أو "الإخراج المتمكن"، إلى آخر هذا الكلام "المفرغ". وبادئ ذي بدء: نقرر أنه لا توجد قراءة محايدة، وأن قراءتنا لفيلم مدكور ثابت لا تنفي إمكانية قراءته بطرق أخرى متعددة وكثيرة، بما يعني أ، قراءتنا هنا هي مجرد إحدى المعارف الكثيرة التي يتضمنها الفيلم.
عنوان الفيلم/ مدخل القراءة
أن أول ما نطالعه في فيلم مدكور ثابت هو عنوانه الطويل "حكاية الأصل والصورة"، في إخراج قصة نجيب محفوظ المسماة صورة"أن عنوان الفيلم لا يتوقف عند مجرد صياغة مكتوبة على الشاشة، بل إنه هو نفسه كل الجزء السينمائي الذي يتم به تقديم هذه العبارة، أي الجزء الذي يبدأ منذ اللحظة الأولي للفيلم، وينتهي بحركة "بان"panدائري لتواجه الكاميرا التمثال المقام في الميدان، حيث يمثل هذا الجزء المقابل السينمائي للعبارة السابقة، لقد حول مدكور ثابت العنوان إلى ملخص synopsis يرمي إلى تقديم قراءة أولية للفيلم، مما يذكرنا بالمثل الشائع: "الكتاب يقرأ من عنوانه"، ومن المستحسن قبل الدخول في تحليل الفيلم أن نقدم تلخيصا لهذا الفيلم وأن كان يتحدى التلخيص لأن مشاهدته قد لا تكون متاحة.
امرأة ورجل يرقصان على أنغام موسيقي هادئة يظهر نصفهما السفلي في عناق شبقي ثم ننتقل إلى صورة سيدة غير واضحة المعالم على الصفحة الأولي من جريدة الأخبار وقد كتب تحتها "مقتل مليونيرة أجنبية في سفح الهرم"؛ يظهر صحفيان للتحقيق في الحادث أحدها راشد الصحفي الذي لا يري من الدنيا إلا القضايا الكبيرة ومعه زميلته ماجدة التي لا تري من الدنيا إلا الحوادث الصغيرة المثيرة ننتقل بعد ذلك إلى البداية التحقيق، يتقدم شابان: محي عبد العال ويوسف عبد العال وكلاهما يدعي أنه القاتل يترك المخرج هذين الشابين ليغوص في الشارع بحثا عن القاتل فيضبط رشاد أفندي الموظف في الأرشيف على الدرجة الثالثة والذي يحب محمد عبد الوهاب وله علاقة بالقتيلة فقد اشتغلت في بيته، ويعايش الفيلم رشاد أفندي في بعض المشاهد واللقطات حيث نجده دائم القرف لكن لا شيء يثبت إدانته، نجد الكاميرا بعد ذلك في مواجهة أحد المشتبه فيهم: الحاج محمود، صاحب مصنع نسيج وهو الآخر كانت له علاقة بالقتيلة ونعرف أنها كانت تحبه وأنها لم ترفض له طلب قد وقد حملت منه وأجهضها، لكننا لا نجد ما يثبت أدانته ننتقل بعد ذلك إلى حسونه المغربي رجل الأعمال المتحسر على أيام البورصة وأمجادها والغارق في المجون ونعايشه في بعض تفاصيل حياته لنري إلى أي مدد وصل الاستهتاز وبمن يحيطون به، ندخل بعد ذلك بيت دعارة يديره عبد الغني، نكتشف أن إحدى المشتغلات عنده بطلتنا لكن وقد تغير اسمها مثلما تغير كل مرة مع الشخصيات الأخرى والفيلم في النهاية لا يبرئ أحدا ولا يدين أحدا ننتقل بعد ذلك إلى القرية التي نزحت منها القتيلة لنري والديها يستقبلان الخبر، أما الوالدة فتستقبله بالنحيب وأما الوالد فبنوع من البرود والحياد ذلك أنه اعتبر ابنته في عداد الأموات منذ غادرت القرية.
منذ البداية وفي سكون الليل وصمته، يدخل شاب إلى الميدان العام، يتراقص في سعادة حالمة ويصفر بنغمة موسيقي شهر زاد لرمسكي كورساكوف، حتى يتحرك إلى مقدمة الكادر، حيث يسحب سريرا من خارج الكادر إلى داخله وسط الميدان العام، ثم يضع ساترا بيننا وبين السرير ليقبل فتاته في سعادة، ولكن فجأة تنقض يد بسكين كبير من الأمام ( بحجم الكادر) لتمزيق السرير والساتر بل وفي الحقيقة تمزق الكادر نفسه، وتنقطع موسيقي كورساكوف على صوت صرخة مكتومة، ومدوية.
وفي هذا المشهد الذي يجر يكله عبر ليل خراجي في ميدان عام أمام مبني كبير، نلاحظ أن هناك مجموعة من الازدواجيات التكوينية التي يتضمنها المشهد، إذا هناك العمق الداخلي/ العمق الخارجي: الفتي قادم من الخلفية/ من داخل الكادر، واليد تدخل من الأمام/ من خارج الكادر، وهناك أيضا ازدواج: اليمين/ واليسار: الفتي يسحب السرير من اليسار إلى اليمين، واليد تدخل من اليمين إلى اليسار.
أن الازدوجات التكوينية تضعنا في النهاية أمام تضاد معنوي: بين الفتي السعيد، واليد حاملة السكين، وهذا التضاد هو الذي يؤكد الحدث، فاليد تقطع كادر الفتي وتمزقة، وفعل اليد الضخمة يلغي فعل الفتي تماما، إضافة إلى أن استخدام الحجم الكبير جدا ليد، مقابل الجسم العادي للفتي إنما يؤكد سيطرتها عليه، كما يؤكد سلطانها وجبروتها، وبالتالي نصل إلى لعلاقة بين الفتي الذي يطمع في حياة سعيدة هادئة، وتلك اليد التي تقتحم عامله وتكسره، أو بين الفرد وهو المقابل العام للفتي، وبين سلطة غير محددة تقتحم حياته وتهدد أمنه.
هذا ويظهر عدم تحديد كنه أو هوية السلطة هذه من كونها مجرد يد تحمل سلاحا، أنه شيء مجرد "فظيع"، وهذا في حد ذاته غموض، ويقصد منه أساسا إثارة مجموعة من التساؤلات في ذهن المتفرج المتلقي، ألا يقول المشهد: أن خصوصية الإنسان تتعرض للانتهاك في هذا العالم؟
ولكن: أي عالم؟ أي زمان؟ ولماذا؟ .. لا يقدم لنا المشهد/ اللقطة إجابة، إنما الإجابة هي فيلم مدكور ثابت بأكمله.
فالعنوان هو تساؤل يقدم الفيلم إجابته، أما العلاقة بين اللقطات في العنوان فهي علاقة جدلية، حيث كل لقطة تثير تساؤلا ما مع المعلومة التي تقدمها، بينما يتم تقديم الإجابة على هذا التساؤل من خلال المونتاج الداخلي، وتغير التكوين داخل الكادر، أو من خلال اللقطة التي تليها.
أما البناء الكلي لمجموعة اللقطات أو المشهد scene فيقدم حلا عاما لتساؤلات اللقطات التي يحويها، أو بعبارة أخرى فإنه يصيغ القانون الداخلي الذي يحكم أنساق هذا البناء، أي ما أشرنا إليه من تضاد معنوي يتم خلقه من خلال الازدواجات التكوينية الحركية، إضافة إلى نفس الدور الذي قامت به الموسيقي، فالمقطوعة سهلة من حيث إمكان عزفها ( شهرزاد كورساكوف)، وتحمل ضمنيا التراث الثقافي لألف ليلة في نفوس المتفرجين، وعندما يؤديها الفتي صفيرا، إنما تعني بالتالي اندماجا في الذات، ولذا يأتي توقفها المفاجئ معبرا عن نفس التضاد المعنوي، فتوقف الموسيقي هنا يعني تحطم حرية الفرد.
وفي اللقطة التالية نري مجموعة من الشباب ترقص على أنغام موسيقي حديثة في حديثة، ثم وبحركة انقضاض إلى الخلق zoom out ينقسم الكادر إلى خلفية في اليمين يرقص فيها الشاب، ومقدمة إلى اليسار، أما في أعلى الكادر فيظهر مسيح يوضع على الصليب، ولا يظهر المسيح بكامله، ولكن يظهر الجزء الرمزي الأساسي فيه: اليد، حيث نري في تكوين غريب وعلاقة تغريبية مع حافة الكادر- يده وهي تدق في الصليب، ويتعالي صوت الدق مع اختفاء الموسيقي.
من الواضح أن الإدانة تتحول إلى شكل عام، إدانة لم تعد لليهود، بل للإنسانية كلها، الجنس البشري كله مسئول عن جريمة صلب المسيح ابن الإنسان، أي أنه مسئول عن قتل البراءة والطهارة التي يرمز لها المسيح، أن الإشكالية التي تمثلها هذه اللقطة هي التي تتضح من خلال الترابط بين الخلفية ( الشاب الراقص) والمقدمة ( المسيح المصلوب).
ضياع الشباب = ضياع البراءة
تلك هي المعادلة التي يقدمها المخرج، وتشكل هذه المعادلة إشكالية عصره، أي أواخر الستينيات عصر ثورات الشباب وحركة الهيبيز وموجات عدم الانتماء والتمرد والتمزق، وإحدى إجابات الإشكالية- وهي سبب هذا الضياع- تقدمها مدكور ثابت من خلال الصوت، فتتحول المسويقي وهي الفن الشعوري الخالص إلى دق وهو شكل مادي خالص يعني غزو المادية للعالم، وهو ما يطرحه المخرد، ويتبقي من العنوان لقطة بأن دائري 180 من اليمين إلى اليسار، حيث نواجه من خلال عين الكاميرا الباحثة تمثالا كبيرا لامرأة مجنحة. والحركة كما نري تطرح تساؤلا: من هي تلك المرأة؟ وأيضا: أين تلك المرأة؟ هل هي البراءة أم العدالة أم الحقيقية.
تلك هي إشكالية مدكور ثابت الأساسية، وإشكالية كل شاب في عصره وفي عالمه: مصر في نهاية الستينيات:
عن مقدمة الفيلم
عند قراءتنا لعنوان فيلم مدكور ثابت قلنا أنه يمثل ملخصا عاما للفيلم ككل متكامل، الأمر الذي يمكننا أن نسميه "برعاة الاستهلاك"، وهو المفهوم اللغوي الذي نستعيره من النقاد القدماء، ومثاله حائية جرير التي مطلعها: "أتصحوا أم فؤادك غير صاح؟"وهو يمدح بها عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، فما كان من عبد الملك الذواقة إلا أن قال له: بل فؤادك أنت يا ابن اللخناء.
وقد فسر ابن سلام هذا بقوله أن جريرا أساء الأدب ولم يحسن اختيار اللفظ الذي يخاطب به الخليفة، بينما نجد أن بائية أبي تمام وهو يمدح المعتصم بعد فتح عمورية- والتي مطلعها "السيف أصدق أنباء من الكتب"قد لاقت استحسان النقاد وقالوا أنها توجز لموضوعه وتقتحمه، وهو ما عمد إليه مدكور ثابت في عنوان فيلمه، فقد أوجز واختصر ومهد لموضوعه وطرح إشكاليته المركزية مباشرة.
ولقد عمد مدكور ثابت بعد ذلك إلى الدخول بنا ومعنا في فيلمه من خلال بطلية اللذين اختار لهما مهنة المتاعب ألا وهي الصحافة، وبطلا مخرجنا ( راشد وماجدة) صحفيان شابان يحققان للمتفرج عملية التعيين أو التماهي identification أي دخول الوهم، فمن خلال نموذجين نمطيين جدا شابين ناجحين محترمين يتعرف المتفرج على نفسه، ويبدأ في التطلع لتحقيق ذاته المرجوة في الوهم، مدكور ثابت إذن يقدم لمتفرجه خيطا يدخل به عالم الوهم ويسهل له عملية التعيين.
ولكن هذا أحد وجهي العملة فقط، فالحقيقة أن مدكور ثابت حين يدخل المتفرج فيلمه من خلال بطليه، إنما يطرده منه أيضا من خلال هذين البطلين، وبالتحديد من خلال اختيار الممثلين الذي يلعبان دور البطولة، فأحد جوانب عملية التعيين التي هي أساس دخول الوهم هو النجم، أي الممثل الشهير، الذي يحقق من خلال مجموعة من أدوار متكررة ومتشابهة تراثا معينا يترسخ في الذاكرة البصرية للمتفرج، بحيث نجد أن لكل نوعية من المتفرجين نجمها المفضل، وحيث نجوم تختفي ونجوما تظهر فنظام النجم star systemيشبه عملية التغذية الراجعة feed back : المتفرج يطلب نمطا معينا ويحقق نجم ما هذا النمط، ثم يصبح النجم هو هدف المتفرج، وهكذا.. ومن ثم فاختيار وجهين جديدين لا يعطي الفرصة لاكتمال عملية التعيين، وبالتالي فإنه من خلال هذا يحقق المخرج هدفين:
1- كسر نظام النجم وتحقيق استقلال الفيلم/ الموضوع.
2-إلغاء عملية التعيين المسبقة، وبالتالي تصبح العملية رهنا بما يقدمه الفيلم من مادة يمكن للمتفرج من خلالها التعرف على ذاته.
الهدفان في ضوء فهمنا السابق متلازمان، ومدكور ثابت يحو لعملية التعيين إلى سلاح يستخدمه لمخاطبة المتفرج أنه كما يخبرنا يحاول تحقيق عملية "كسر نسبي لحاجز الوهم"من أجل خلق حوار جدلي، وذلك بالدخول والخروج مع المتفرج، من وإلى الفيلم، وضمن ما يتحقق به ذلك، تتم عملية الكسر لحاجز الوهم، أي طرد المتفرج من الفيلم، من خلال الانتقال المفاجئ في لغة الحوار من العامية إلى الفصحي، ولكن هذا الانتقال مشروط بالصوت الآتي من خارج الكادر out of screen : صوت انفجار القنابل والطائرات، الذي يعمل بمثابة حافظ إنذاربي ينبه لخطر قادم، وهذا هو المستوي السياقي، حيث يستغل مدكور ثابت هنا إمكانيات السيناريو التوكيدي في رقم الشخصية ( من خلال اهتمامات الصحفي وطبيعته) ليؤكد أن راشد ينتبه للأحداث الكبيرة، وأما على المستوي التصوري فنفهم زمن الحدث من هذا الصوت، أو أنه يتأكد لنا هذا الزمن، أن أردنا تعبيرا أدق، فكأن الصوت هنا يستغل- وظيفيا- لقدم ثلاثة معاني:
1- معني تنبيهي.
2- معني درامي.
3- معني زماني.
إلا أن عملية التنبيه لا تتم فقط من خلال الصوت، بل أن هناك مجموعة من الأدوات قد استخدمت لتكوين مستويات عدة، بحيث يفهم هذا من خلالها: فتغير مكان الحدث المتقاطع بين مكان الجريمة ( سفح الهرم) ومكان لقاء الأحبة، إنما يهدد لهذا الكسر الكامل، وأيضا يكسر الحاجز نسبيا إذا يحدث هذا الكسر من جراء محاول المتفرج تتبع الأحداث وتفهمها وعدم اتساق ما يحدث أمامه نسبيا، كذلك فإن حركة الممثل تؤدي دورا في هذا التنبيه: فاتجاه راشد ( محمود ياسين) إلى المتفرج ومخاطبته بهذا الشكل المسرحي المقصود، تفيد التذكير بأنه يري فيلما، وأن هناك أكثر من وجهتي نظر، كما أن هذه الحركة تؤدي نفس وظائف الصوت التنبيهي فهي تعطي معني دراميا ( اهتمامات راشد) وأيضا معني تنبيهيا.
نحن نري ويتضح هذا في اتجاه الأسم أن الحديثين (1) ، (3) هما الواقع السياقي المستمر والذي يخبرنا به الفيلم إذن فهو ما يقع تحت المستوي الأخباري: ويفهم هذا من خلال أنهما الحدثان اللذان يشكلان عملية التحقيق ( الفيلم) فكونهما قد حدثا هو أمر متروك لنا، وهما بالتالي قعان تحت قوانين المكان ( سفح الهرم) والزمان ( أواخر الستينات) ومن ثم فالتتابع بينهما مستمر ( الأسهم) بينما أن الحدث (2) هو احتمال مجرد، إذا يمكن تحققه من خلال الإمكانية المجردة وليس الإمكانية الفعلية للواقع أنه حدث إنشائي تصوري، فاتجاه السهم من الحدث (1) إليه هو مجرد ترتيب سينمائي، لا ترتيب سياقي cinematic syntax not syntactical syntaxوبذا فهذا الحدث يماثل اللقطة الإخبارية لإعطاء معلومة فعلية لا تحتمل الصدق أو الكذب، أو لتوجيه تساؤل ما وبالتالي إثارة الانتباه، وهو هنا يقوم بثلاث وظائف:
1- على المستوي الدرامي: يقدم تأكيدا لاهتمامات كل من راشد وماجدة، من خلال حركة كل منهما وتأثره بالمنبه الخارجي.
2- على المستوي السينمائي: يعمل على كسر حاجز الوهم، من خلا لكسر الترتيب السياقي وكذلك من خلال الجزئية السابق شرحها ( الصوت، الحوار، وحركة الممثل، الخ).
3- على المستوي المعنوي semantic level: يخلق ازدواجا لفظيا لغويا (العربية/ العامية)، فيعبر عن ازدواج داخل شخصية ( راشد)، وتمزق مماثل الجدية/ الهزل، القضايا الكبيرة العامة/ المشاكل الصغيرة الخاصة وأيضا يعبر عن تناقض بين الشخصيتين ( راشد- ماجدة) خالقا قطبي قضية منهما، وهو الأمر الذي يستفيد منه دراميا كما نري.
لذا نؤكد على أن الحدث هو مجرد احتمال يقع تحت قوانين الإمكانية المجردة، فهو ليس رجوعا للماضي وليس طرحا مستقبليا، أن الحدث كما قلنا يقدم علاقة راشد وماجدة، وهو لا يشرح فقط العلاقة، ولكن يقدم راشد الشخصية/ المثال type أن راشد بتكوينه إنما يمثل مثقف العالم الثالث بكل تناقضاته، حيث يكون التناقض بين الفكر والممارسة سمة رئيسية من سماته، فراشد الذي يهتم بالقضايا العالمية وتشغله مشاكله الإنسانية يحب ماجدة التي لا تهتم إلا بالمشاكل الصغيرة، وبما يراه هو تفاهات، وهنا تثور إشكالية الحب في ظروف مجتمع من المجتمعات النامية، وتزداد تخصصا فتصير: معني الحب في مصر.
ويعود مدكور ثابت لاستخدام التكوين للتأكيد على هذه الإشكالية، ولا نغالي أن قلنا أنها إشكالية الفيلم الرئيسية أو على الأقل أحد أهم إشكالياته، فمن خلال كادر غير متوازن، ويرتكز ثقله إلى اليمين، تظهر سيطرة ماجدة بالحركة وبالمكان، فهي تشير من أعلى إلى اليمين، إلى راشد الذي يقبع ساكنا أسفل إلى اليسار، فهذا الكادر يلخص العلاقة التناقضية بين الاثنين/ الواحد.
وفي هذه اللحظة بالذات يختار مدكور دخول فيلمه بشخصه وبشكل إنذاري، مستخدما الصوت ( ستوب) ليدخل بشخصه، وهنا نسأل: لماذا أختار مدكور ثابت دخول الكادر بشخصه؟ هل يحاول الاستفادة من هيتشكوك أو من يوسف شاهين؟ أو هل هو يحاول هنا أ، يتشبه بهذين الأستاذين؟ في أرينا أن التشابه ليس بينه وبينهما، ولكن بينه وبين اثنين آخرين، رغم أن أفلامهما جاءت في سنوات لاحقه على فيلم مدكور ثابت- أحدهما مصري هو خيري بشارة في فيلمه "ذكريات التخلف".
أن الدخول بالذات يحدث أكثر من معني في ذهن المتفرج. وأول هذه المعاني: إخباري إنشائي، ويقصد به كسر الحاجز الوهمي وإلغاء عملية التعيين وكأنه يقول: أيها الأصدقاء المتفرجون، أنتم تشاهدون فيلما، ولا داعي للاندماج معه، فتذكروا هذا وذلك من خلال خلق السينما داخل السينما، إلا أن هناك مجموعة أخرى من المعاني تتداعي، إذا يستدعيها عملية التشابه الموقفي والارتباط المعنوي semantic relationship أو التماثل في المبني والمعني، كما أ، الاستدعاء بصري visual أولا، ومعنوي semantic ثانيا، وهي خاصية سنحاول مناقشتها فيما بعد.
أن رؤية ومشاهدة جوتيرييز آليا المخرج بشخصه ( مخرجا يعمل في المعهد الدولي للدراسات السينمائية في كوبا I.C.A.I.C) تعني تطابق مشاكله مشاكل بطله، رغم أنه ليس بطله، أي أن البطل يمثل المخرج ولكنه ليس المخرج تماما، وتلك هي نقطة التشابه أيضا مع خيري بشارة ( فيما بعد) إذا في تصورنا أن اللقطة التي يخاطب فيها أحمد الشاذلي( أحمد زكي) خطيبته ( تيسير فهمي) قائلا: "ده خيري بشارة.. مخرج زميلنا في التسجيلية.ز سالف مني خمسة جنيه.. وكلنا بنستلف من بعض هذه اللقطة هي تأكيد من خيري بشارة أنه ليس أحمد الشاذلي، ولكن مشاكله هي مشاكل أحمد الشاذلي، أن مشاكل أحمد الشاذلي هي مشاكل كل جيلهما، كما أن المضير يعود على خيري بشارة وعلى أحمد الشاذلي، وفي الموضوع identification with object وكأنه يقول أن مشاكل راشد هي مشاكلي ومشاكلك أيها المشاهد، بل، ومشاكل كل مثقف، وإلى حد كبير هي مشاكل كل فرد في دول العامل الثالث.
ومن هنا يتطابق دخول المخرج مع اعتذاره للمشاهد بعد ذلك "نأسف لعرض هذه المشهد.ز وهو غير موجود لا في القصة ولا في السيناريو"، أن هذا الاعتذار هو نوع من التنبيه، فهو حين يقول: "لا في القصة ولا في السيناريو"، يقصد أن ما نشاهده يختلف عن الشكل التقليدي القديم للسينما، مع التأكيد أن هذا القديم ما زال يحاصره، وذلك أيضا من خلال الحوار:"معلش . نلغيها في المونتاج".. مع أ،ه يعرض ما حدث.
أن المخرج هنا يطلب من المشاهد عملية تعيين مخالفة للعملية التي تحدث له عند دخوله السينما وابتلاعه جرعة المخدر، أنه يطلب منه التعيين مع موضوعه مشكلاته، واقعة، ومجتمعه، ومن ثم فهو يعمل بشكل يعاكس تماما ما أعتاد المتفرج، أنه يطرح إشكالية مثقف العالم الثالث بشكل آخر: ما الحل بالنسبة لي؟ هل أتخلي عن أفكاري واقعيا وأمارسها كلاميا؟ هل أطالب بالتجديد السينمائي كلاميا وأقع في حبائل سينما الشباك والجمهور عائز كده فعلا؟ وما السبيل لتقديم هذا الجديد الذي أطالب به؟ وكيف؟ وما المناخ الذي يتيح تقديم الجديد؟ أن هذه الأسئلة هي متناقضات راشد الداخلية، وتناقض راشد/ ماجدة الفيلمي، وبالتالي هي إشكالية الفيلم التي قدمناها من قبل ( الإجابة على هذه الأسئلة أو تفسير هذه الإشكالية أجبر مدكور ثابت على البقاء عشرين عاما دون تقديم فيلم جديد).
وينتقل بنا الفيلم بعد ذلك إلى موضوع التحقيق، وذلك من خلال دخول ضابط الشرطة للكادر، ثم حواره مع الصحيفة حول القاتل والقتيلة، حيث أن وجهة نظر ضابط الشرطة تمثل وجهة نظر عامة، أنه مثال واضح على تأثر مدكور ثابت بفكرة "تيباج"آيزنشتاين"ويتضح هذا من خلال حركة الضابط البطيئة الآمرة وشكل تعامله مع مرؤوسية وطريقته في الكلام مع الصحيفة، الخ أنه يمثل سلطة بأكملها حاملة بيروقراطية آمره.
ويتضح هذا في تعامله مع الشخصين اللذين يقدمان نفسيهما على أنهما القاتلان (يوسف ومحي)، ونلاحظ أن "ميزانسين"كل منهما قد تكرر بالحرف، والتكرار يفيد التوكيد وهذا المعني الشكلي يقودنا إلى أن التوكيد هو على حالة كل منهما، أي ما يعانيان منه، وبالتالي ما يعاني منه كل شباب هذا الجيل من تمزق وفقدان للهوية وافتقاد للحب، ومن ثم فهذا المشهد يستدعي الجزء الثاني من العنوان إلى ذهنية المتفرج، فهو يؤكد على ما تضمنه العنوان، وأيضا يجيب على تساؤلاته من حيث تحديده للمكان والزمان، فهو يضع الإشكالية في شكل أكثر خصوصية، حيث شباب مصر يعاني التمزق وفقدان الهوية بعد هزيمة يونيو 1967، ومن ثم تكون المقدمة ردا جدليا على العنوان، ومن هنا أيضا يحتفظ الفيلم بتسلسله السياقي وترابطه في ذهنية المتفرج.
أننا نفهم فقدان الهوية والبحث عن الذات من خلال موقف ( محيي إسماعيل) العبثي، حيث بحثه العدمي عن الشهرة/ الذات (أهو الواحد يعمل أي حاجة يمكن يبقي حاجة) فهو هنا يمثل ريفيا يضيع في المدينة، وبالتالي يخلق ازدواجية بين الريف/ الحضر، كما يعود الفيلم لاستخدام هذه الازدواجية فيما بعد لتعطي معني عاما، ولكن بازدواجية أخرى في المعادلة: الريف/ الحضر، البراءة/ الضياع.
وبينما يبحث محيي عن شهرة الذات، يبحث يوسف عن الحب/ الذات، أي هدفه الذي لا يجده في هذا المجتمع، ومن هنا يتعادل الأثنان في ضياعهما وفقدان هويتهما، فتتحول حالتاهما إلى عمومية فقدان الذات في مجتمع لا يرحم، ويؤكد مدكور ثابت على طبيعة هذا المجتمع، ولكن من خلال الشخص الثالث الذي سمح له بالدخول أنه الصحفي أو ترس الدعاية في المجتمع الرأسمالي، وبانتهاء هذا المشهد الذي يقدم لنا فهي مدكور ثابت آخر خيوط فيلمه، ويدخل مباشرة في الفيلم بأسلوب "سينما داخل سينما"مرة ثانية.
وهكذا يبني مدكور ثابت فيلمه أساسا على الشكل الملحمي البريختي، في قالب بوليسي، فيتشابه هنا مع جان لوك جوادر في استخدام هذا القالب، حيث يلتقيان بغرض شد المتفرج وجذب انتباهه (يوضح الشكل رقم 4 كيف نري هذا من خلال شكل الشمس متعددة الأشعة) وهو ما سنحاول قراءته فيما بعد.
بنية الفيلم:
يبدأ مدكور ثابت أول فصوله بمجموعة لقطات تسجيلية لواقع يومي حياتي في القاهرة: الأتوبيس، ميدان التحرير، الزحام، الشوارع التجارية، إلخ، مع صوت المخرج يأتي من خارج الكادر: "إوعي الناس تشوف الكاميرا يا رجائي... معلش نبقي نتصرف في المونتاج.
ومع جملة "إوعي الناس تشوف الكاميرا"نري الناس تتطلع باهتمام للكاميرا: كل فرد يريد أن يظهر على الشاشة وأن يصير نجما، مثلما يحدث حين يوجه مصور في مباراة لكرة القدم كاميرته نحو الجمهور، ويتنبه البعض لذلك فيأخذون في الإشارة والتلويح، ليس لفرد معين ولكن للمجتمع، أن ما يحدث أمامنا على الشاشة في فيلم مدكور ثابت هو جزء من أسطورة السينما.
أنه التناقض المقصود إذن حيث التحول إلى المعني المضاد، خللي الناس تشوق الكاميرا هو ما يقصده مدكور ثابت إذا يتحول الأمر إلى شوفوا نفسكم على الشاشة هذه هي مشاكلنا، وتلك هي حياتنا مدكور ثابت يتوحد إذن مع المتفرج ويطلب منه الانتباه، أما الحوار فيتم من خلال الكاميرا والصوت، وهكذا يكون المتفرج على أقصي درجة من الانتباه حين يندفع بكاميرته داخل راس رشاد أفندي، الذي يبدأ معه مدكور أول الفيلم، حيث يظهر الشكل رقم (2) كيف أن بنية الفيلم العامة تتطابق مع شكل السلم، من خلال متابعة الشخصية الرئيسية، وهي الصورة: صورة القتيلة.
· الشخصية الرئيسية تتدرج في السلم الاجتماعي حتى تصل إلى أن تصبح مليونيرة مع موتها.
· لا يمثل الشكل ترتيب الفيلم، إذا كما نري فإن الفصل الأخير هو بداية درجاته، أما بدايته فهي نهاية درجات السلم.
· تعتبر درجة القواد/ العاهرة في مستوي أعلى من المضارب/ اللعوب، لأن معيار الاختيار هو النقود والسلعية، ومن ثم فدرجة السلعية التي توافق درجة القواد/ العاهرة أعلى بكثير من تلك التي للمضارب/ اللعوب.
ونلاحظ أن البطل الذكري الضد، هو الصورة المقابلة لهذا التدرج، فهناك وجهان لعمالة الشخصية الرئيسية، أولهما: القتيلة، والأخر هو البطل الذكرى الضد، وكأن المرأة التي لا نراها ابدا إلا كصورة في جريدة، أو من ظهرها، هي المرأة التي تعكس خبايا هؤلاء الرجال الذين يمثلون شرائح اجتماعية مختلفة.
ولا يدل عدم رؤيتنا للقتيلة قط على أنها مرآة فقط، فالمؤكد هنا أن الجميع يعرفونها، ولكن هل يعرفون شخصية واحدة؟ هذا التساؤل يشكل أحد إشكاليات الفيلم، والتي يؤكدها مدكور ثابت في قوله:"صورتك المقتولة فيها صورة بلدنا كلها"وليس المقصود طبعا نوعا من الرمزية الفجة في العلاقة بين مصر والقتيلة، إذا أن تحول التيلة من مجرد حالة عامة إلى رمز عام، يعتبر محاولة لخلق نمط جديد، أن مدكور يضعنا أمام العنوان فهو يبحث في علاقة القتيلة مع الرجال من أصل / الجثة- الصور/ مصر، وهكذا يمكننا أن نمثل علاقة القتيلة مع الرجال في:
· يمثل المحور الأفقي ترتيب الشخصيات التي تمثل الصورة – وسياقيا هي بداية من القتيلة باعتبارها نقطة الصفر.
· يمثل المحور الرأسي ترتيب الشخصيات الذكرية الضدية- وسياقيا هي بداية من الصورة باعتبارها نقطة الصفر.
· تمثل العلاقة بين الاثنين خطا بيانيا مستقيما لو مددناه على استقامته وأسقطنا منه عمودا في فكيهة يتضح لنا دورها، وذلك من خلال عملية استقراء.
أن الخط البياني الذي يمثل العلاقة بين المرأة المقتولة والرجال، هو الخط البياني لدور المرأة في المجتمع، فهي مجرد سلعة في مجتمع ذكري، حيث ينظر إليها الكل باعتبارها جسدا في سوق للنخاسة، ومن هنا نفهم لماذا وضعنا درية/ عبد الغني في درجة أعلى من حسونة/ فافي، ومحمود/ سميرة أعلى من رشاد/ شلبية في بناء السلم، ونفهم كذلك لماذا أتيا سياقيا متأخرين في الترتيب، فما حدث هو تطور في سلعية القتيلة: إنه إظهار لنظرة المجتمع للمرأة/ السلعة، فالدعارة هي الاستغلال الأقصي للمرأة بواسطة الرجل الذي يستطيع أن يدفع ( هي قمة سلعية المرأة).
وهكذا فحتي لو استقرت فكيهة في الريف، فأنها لن تفلت من هذا الخط البياني، ذلك الخط الذي يمثل نظرة اجتماعية عامة، كما يمثل الدور الذي يرسمه المجتمع البورجوازي الإقطاعي للفتاة، ففكيهة ستصبح سلعة شاءت أم أبت، وهي ستتزوج من يستطيع أن يدفع الثمن، وهي حين ترفض السقا ترفضه لأنه غير قادر على دفع ثمنها ( إشباع طموحاتها وأحلامها)، ففكيهة هي فرد من مجتمع فيه الدفع عدا ونقدأ أو هي قيمته الوحيدة، لا مكان للحب ولا للعواطف، وهو ما نراه من خلال تطورها في كل مشهد.
البنية العامة للمشاهد
ذكرنا فيما سبق أن شكل الفيلم البنائي هو التمحور حول المركز أو الشمس ذات الاشعة المتعددة وكما يظهر يبدأ المشهد الملحمي episode بلقطة كبيرة للشخصية الضد: في المشهد الملحمي الأول ( وجه رشاد في البروفيل)، وفي الفصل الثاني ظهر محمود، وفي الفصل الثالث: أقدام حسونة الهابط.
هذه البداية تمثل أول أشعة الشمس، وهي بداية غير مألوفة للحكاية، فتقليديا تكون اللقطات المتوسطة أو البعيدة أو العامة هي البدايات الملائمة، بينما تحفظ اللقطات الكبيرة لإبراز العواطف وتحليل الشخصيات، وبالتالي التعيين في الشخصية.
وهنا يختلف دور اللقطة الكبيرة عن هذا الدور التعييني، فهي هنا تؤدي غرضا آخر، أنها تعطينا الفرصة للتعرف على الشخصية، ومن ثم تؤكد فكرة المرأة التي نبحث فيها عن صورة القتيلة، أي عن تاريخها الذي هو تاريخ سلعيتها وتشيؤها، وبالتالي تصبح اللقطة الكبيرة وسيلة للتعرف على أسباب التشيؤ، أو الأشخاص التي أدت إلى هذا وهي بدورها تعاني من نفس فقدان الذات والاغتراب والتشيؤ، كل على مستواه.
ويمثل الشعاع الثاني الحدث وهو يتضمن علاقة البطلة المركزية ( صورة القتيلة) بالبطل الضد، وميزانسين الشخصيات في المكان، وهو الأمر الذي يشير إلى الطبقة أو الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها أبطال المشهد الملحمي، وسنحاول تفصيل هذا .
ويمثل الشعاع الثالث الشخصيات، وهي تقدم على مستويين، يتضمن الأول منهما شخصيات الحدث المركزية المستقلة، بينما يتضمن الثاني الشخصيات الأساسية أو أبطال الفيلم الثالثة ( الصحفي والصحيفة والشرطي) وهذه الشخصيات تمثل الاندماج المتحكم فيه كما رأينا فيما سبق.
ويمثل الشعاع الرابع عملية كسر الوهم في كل مشهد، وهي تمثل شعاعا منفصلا لأنها توازي المعني الرمزي كمقابل للمعني المحدد، لأنها ليست جزءا من الحدث، ولكنها كسر للحدث، والملاحظ أن كل عملية في كل مشهد إنما تثير إشكالية، وتردد على إشكالية أخرى، فكسر الوهم في مشهد المصنع مثلا، من خلال كسر التواصل المكاني ( الراكور) الذي يجري فيه الحوار، لا يسكر فقط الستار الوهمي الذي يلف الجمهور، ولكنه أيضا وعلى مستوي آخر يعمم الحدث، إذا أن تغير مكان الحوار مع استمرار العبارات، إنما يوحي بأن هذا الحوار يحدث دائما وفي كل مكان، فهو يرد على إشكالية "أين؟"، بينما يثار تساؤل تنفيذي بخصوص "من؟"، ونلاحظ أيضا أن هذا يحدث بعد فترة محددة تسمح بالانتقال من المشهد إلى المشهد الذي يليه، كما ترتب لكسر الوهم فيه.
وينتهي الفصل بالشعاع الخامس، وهي نهاية لبداية المشهد الذي يليه، فهي نهاية انتقالية، إذ عندما يقرر محمود أن يذهب إلى البوليس قائلا :"تعرف يا إسماعيل.. أنا عاوز أروح إلى البوليس وأقولهم على كل حاجة".. نجد أن المشهد الذي يليه يبدأ بحسونة وهو يكفر في الإبلاغ عن نفسه للبوليس.. بهذه النهاية التمهيدية/ الانتقالية أتت بنية الفيلم السلمية متفقة تماما مع فكرة الفيلم من حيث تصاعد (سلعية) القتيلة، وبالتالي من حيث تساوي إدانة الأفراد التي تؤدي إلى إدانه الطبقة التي ينتمي إليها هؤلاء، هذا كما نلاحظ أن الفيلم يستخدم صورة القتيلة المنشورة في الصحيفة اليومية باعتبارها الفاصلة السينمائية وعلامة الترقيم، حيث تفصل بين كل مشهد وآخر، مثلا تربط بين كل مشهد وآخر، وبذا تظل القتيلة هي البطلة غير المرئية في الفيلم، وهكذا تتفق البنية العامة الشمسية للمشاهد، مع البنية الكلية السلمية للفيلم، فكل منهما يعمل في نسق واحد يوضحه.
شكل (4)
البنية الداخلية لكل مشهد ملحمي
سنحاول فيما يلي تفصيل البنية العامة لكل مشهد ملحمي، محاولين رؤية كل مشهد في نسق خاص به، مع الاعتراف أن هناك نسقا بنائيا أكبر للفيلم يضم مجموعة البني الداخلية لكل مشهد.
المشهد الملحمي الأول: يناقش بنية العائلة البورجوازية الصغيرة التقليدية من خلال جزئيات ( رب البيت الموظف، الزوجة الغيورة، الخادمة الريفية، الارتباط بالقرية، إلى آخر هذه التفاصيل الحياتية).
ونري في هذا المشهد كيف تبدأ رحلة تشيؤ المرأة وتحولها إلى سلعة، فشلبية كانت تحب كل الناس، كما تخبرنا الطفلة، ولكن كانت تحب بابا أكثر، وحب بابا يلخص حلم شلبية الذي تعبر عنه هذه المعادلة:
الحلم – البقاء في المدينة = الزواج من موظف
وهذه المعادلة تعادل المثل الشعبي: أن فاتك الميري اتمرغ في ترابه، ومدكور يقدم أحد عنصري المعادلة ( الموظف) بوصفه أول أبطالة الذكريين الأضداد antagonist أنه أولا يرصد موقعه الاجتماعي: موظف صغير في إحدى دواوين الحكومة ( مشهد الأختام) وموقعه العائلي: زوج طيع لامرأة غيورة، وكما نلاحظ أن هذا الرصديعادل القشرة الخارجية لنموذج سينمائي تقليدي cinematic stereotype ، ولكن مدكور لا يتوقف عند تقديم هذا النموذج التقليدي، بل يقوم بتقريبه والنفاذ داخل تكوينه، وذلك بتعرية العلاقات الأسرية وعلاقاتها الطبقية داخل إطار البناء الاجتماعي social structure ، ليظهر هشاشة هذا البناء وضعف هذه العلاقات الموهومة.
أن القهر الذي يعانيه رشاد أفندي على يد السلطة/"الدولة والزوجة"، يقوم بإخراجه على الخادمة شلبية، أما المعادل الرمزي لهذا فهو قهر المدينة للريف، ونوعية القهر الذي يقدر رشاد على ممارسته هو الاغتصاب الجنسي، وهنا يقوم مدكور ثابت باستخدام مفردات سينمائية تقليدية: ولكنه على المستوي التصوري يحيلنا إلى مفردات سينمائية قديمة مثل: فوران القهوة وتغير لون الورد وانفتاح زجاج النافذة، ويهزأ بها ويضحك منها، أن الضحكات الجنسية هنا تسخر من هذا التراث البالي ومن القيمة التي يمثلها "شرف البنت زي عود الكبريت"ويسخر منها بالصورة، فالطربوش الذي يوضع على البوتاجاز يحترق، بينما يعادل الطربوش الذي يوضع على البوتاجاز يحترق، بينما يعادل الطربوش عند المتفرج زمنا قديما"إحدى الدلالات المرئية لعصر مضي"واحتراقه يعني احتراق هذا الزمن، وبوضعه في نفس الكادر مع اللبن الذي يفور نحصل على المعادلة البصرية/ المعنوية visual semantic التالية:
الطربوش/ الزمن البالي= اللبن/ مفردات السينما القديمة
والمعني اللازم denotation هنا أن احتراق الزمن القديم وذهابه يعادل تخلصنا من مفردات السينما القديمة ومن إسارها ولكن المعني المصاحب connotation يعادل الزمن البالي وتخلصنا منه بالقيم والعادات والثقافة وفي النهاية بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي لهذا الزمن وتحمل هذه القيم، وكأن المقصود ليس التخلص فقط من آثار هذه السينما ولكن التخلص من هذه القيم ومن الطبقة والمجتمع اللذين يفرضانها، أي التخلص من سلعية البشر، ومن معادلة الشرف بالجنس إلى آخر القائمة.
وتظهر عملية النمذجة typageمرة ثانية مع تغير الخادمة، فتعدد الخادمات وتبدلهم يجعل مشكلة شلبية أمر عام ويحولها إلى نموذج مكرر، وهنا تحذير من استمرار هذا النموذج، وبالتالي تكرار المأساة مع استمرار الشكل الاجتماعي الذي أفرزها.
والشخصيات الأساسية في المشهد تمثل استمرار فكرة النمذجة أو التأطير أو التعميم، فكل منها يقدم وجهة نظر عامة: الصحفية ماجدة تمثل منهاج الصحافة المردخية الأمينية في البحث عن الأخبار المثيرة، ولكنها تعكس شخصيا مستوي آخر هو البساطة والبعد عن التقعيد، ومن ثم فهي أقرب الثلاثة للتعاطف مع القتيلة، أن الصحفية إنسانية وبسيطة لم تضع بعد في غياهب متاهات المثقفين وثروتهم الكلامية، وعلى طرق النقيض يقف الصحفي راشد الذي يعكس بوضوح أزمة هؤلاء المثقفين، فهو يقول: واضح أن الجسد لعب دور البضاعة"، ونري أنه يدين القتيلة وبشدة، متناسبا كلمة السيد المسيح: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر"، وهو هنا يدين نفسه فنحن نراه في المشهد الملحمي الثالث يلعب دور المسيح ضمن الحفل التنكري الفانتازي الذي يقيمه حسونة المغربي، أن مدكور ثابت حين يجعله يؤدي هذا الدور في الواقع/ الوهم أو المتخيل- بينما سمعناه ينكره لسانيا- يجعلنا نصنع عملية مونتاج ذهنية مستدعين القول السابق نتيجة للرؤية الحالية، أي الربط بين البصري والسمعي، وهنا تتكثف أمامنا بكل وضوح أزمة المثقف الواقعية، هذا المثقف الذي يبذل آخر نقطة من دمه كلاميا دفاعا عن الوطن والعروبة والقومية، الخ، بينما يبيع هذا الوطن وتلك القضايا لقاء ضما نبعض الفتات.. أنه يعيش إذن ازدواجية حياتية، فهو المسيح الواهم أو الدجال، أما الشرطي فهو يمثل الموقف السلطوي، وهو في حركته يتخذ دائما موقف مواجهة الجمهور وكأنه ينوي إلقاء القبض عليه، فهو سلطة القهر والتعسف في خدمة الشعب.
وفي إطار هذه العملية ( النمذجة) نري دور الطفلة الصغيرة أو ابنة رشاد افندي التي تقدم لنا مفهومها عن الحب والبراءة والبساطة، ويقدم مدكور ثابت من خلالها هذا المفهوم مستخدما نمطا سينمائيا مشهورا، فمعادلة الطفولة بالبراءة والخلو من الأخطاء الكبيرة التي تلوث عالم الكبار أمر مألوف وشائع ووجودها يستدعي هذه المعاني من خلال علاقتنا بالسينما العالمية كمرجع أساسي، ومن خلال محاولتنا استرجاع الطفل الذي نظن وجوده في كل منا، وهي تعادل سينمائيا عند المخرج القتيلة أيضا من حيث كونها تتمثل بها وتحبها، فتعطينا معادلة الطفلة- القتيلة، إذن البراءة هي التي قتلت في نفوسنا.
وهنا يستخدم مدكور ثابت ممثلة معروفة في دور الزوجة: فتحية شاهين، ولأنها بصريا تمثل للمتفرج تراثا ثقافيا ماثلا لدورها، أي الزوجة القوية الغيورة التقليدية، لذا فتقبلها السياقي سلسل وطبيعي، هذا بينما يؤدي دور الزوج "عم عبد الشافي"، وهو يمثل لأول مرة لأن الدور ليس تقليديا، ليس نموذجا، بحيث يمكن أن يؤديه ممثل تقليدي مثل "عدلي كاسب"أو "عبد المنعم مدبولي"، مما قد يحدث عملية تعيين من خلال النجم لبعض المتفرجين، وهو ما يرفضه الفيلم كما أوضحنا.
وينتهي المشهد الملحمي الأول برشاد أفندي يسير في الشارع وتتابعه الكاميرا، ثم تلتقي معه فجأة ودون إنذار إعلانات أربعة محمولة وفرقة موسيقية تدق آلاتها وتقرع طبولها، افيشات أفلام في بروجرام واحد: دراكولا- من القاتل؟ أنا القاتل- الحب القاتل. يلتقي الوهم مع الواقع، ولكن أيهما الواقع؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه.
وهذه العناوين تثير العديد من التساؤلات: من هو داركولا؟ هل هو رشاد أفندي الذي اغتصب شلبية؟ أم هو هذه الطبقة التي تمتص دماء الشعب الكادح؟ أهم هو دودة البلهارسيا التي تمتص دماء الفلاح المصري ودماء مصر كلها وتهدد 80% من أبنائها؟ أم هو الجميع؟
ثم، من القاتل؟ عودة التساؤل الأساسي للفيلم – عفوا، الذي يبدو أساسيا – ولكنه استفهام من قبيل استفهام جرير:"ألستم خير من ركب المطايا وأندي العاملين بطون راح "أنه استفهام يقصد به الإدانة: أنتم القتلة، هذا هو المقصود: والمضير يعود على الجميع.
ويرد العنوان التالي مؤكدا: أنا القاتل. أن ضمير المتكلم هنا يعود على الجميع، إنه الأنا الجمعية لهذا المجتمع الذي تسبب في قتل البراءة في نفوسنا.
ويأتي العنوان الأخير ليكون همزة الوصل التي أشرنا إليها بين المشهد الملحمي الأول والمشهد الملحمي الثاني: الحب القاتل، فسنري أن المشهد الثاني ينكر كيف عثرت أو ظنت أنها كثرت على الحب بينما هي في الحقيقة تسير في طريقها المرسوم نحو نهايتها المحتومة.
أن هذه العناوين تستخدم لغرض آخر، فهي تستخدم استخداما بريختيا لكسر الجو الوهمي المحيط، فهي تأتي فجأة، وعلى موسيقي غربية، فتحدث عملية اغتراب فسيولوجية من خلال اختلاف الصوت والصورة عن السياق المفترض، وهذا الاستخدام يوضح العلاقة الجدلية بين السياقي والتصوري، يحث يمثل السياقي الترتيب البنائي، ويمثل التصوري التداعي المعنوي على حسب ثقافة المتفرج.
ونود في النهاية أن نشير إلى أن وجود علاقات بين المشاهد لا تنفي بنية الفيلم السلمية، وأن نمط Pattern هذه العلاقة يشابه نمط النخاع الدماغي cerebral cortex وتتضح هذه العلاقة في فكرة التداعي البصري اللفظي بين تمثيل صورة المسيح بصريا، وإدانه صورة القتيلة لفظيا، وايضا في فكرة الريف ودراكولا، كما يظهر بعد الفصل الأخير.
المشهد الملحمي الثاني يناقش علاقة الإنسانية بالآلة، وكما نري فتلك الإشكالية جزء من إشكالية علاقة الإنسان بمجتمعه، وبالتالي جزء من إشكاليات الفيلم، وهذه الإشكالية تتضمن ازدواج صاحب العمل/ العامل، وكذلك ازدواج العامل/ الآلة.
ويمكن صياغة قانون هذه الإشكالية كالتالي: صاحب العمل/ العامل/ الآلة = اغتراب الإنسان في المجتمع الرأسمالي، فالعلاقة بين العامل والآلة تشبه علاقة تروس الآلة بعضها البعض وهذا العامل لا يحس بقيمة ما ينتجه، وبالتالي لا يحس بذاته، وتتم ترجمة هذه العلاقة سينمائيا من خلال المصنع الذي تسيطر عليه الآلة والإنسان، هذه الآلة التي ننظر إليها من أعلى ثم من أسفل ثم من اليسار، وأن مدكور ثابت بتأمله للآلة يعبر عن اغترابنا نحن، والمقصود بالضمير، هنا: نحن كل المجتمع، أي المتجمع الصناعي، كما أنه في مستوي آخر يعبر عن اغتراب هؤلاء المثقفين عن الطبقة التي تشكل جزءا من هذه الآلة، أي الطبقة العاملة، وهنا يعبر مدكور ثابت بطريقة أخرى عن أزمة المثقف، ومن ثم يقل تواجد دور الصحفي في هذا الشهد الملحمي ككل، فلا حاجة لنا به إذا الكاميرا هنا تؤدي نفس مهمته ( الصحفي يمثل ذاتية حرة غير مباشرة free indirect subjective ) وأزمة المثقف هي إشكالية متكررة تعاود طرح نفسها المرة تلو الأخرى، ولا نغالي أن قلنا أنها تستحوذ على مدكور ثابت.
ويناقش مدكور ثابت هنا سلعية المرأة من خلال ممارستها لحقها في الحب، وقد أعددنا لهذا بعنوان "الحب القاتل"، ويتضح هذا من خلال اعتراف صاحب المصنع بأنه أحبها وأحبته، أو كما كانت تقول له "أنا من إيدك دي لغيدك دي"، أما استسلامها له بعد عقده عليها عرفيا فليس سقوطا، ولكنه ممارسة لحقها في الحب وحريتها في أن تهب جسدها وتأخذ حب من تحبه، أن السقوط هو سقوط صاحب المصنع حين رفض استمرار العلاقة بمجرد أن بدت نتائجها بعد أن حملت وأثمرت أن رفضة لتطور العلاقة يعني رفضه لخروج حبها للنور، وبالتالي رفضه لتطور حبهما، وهو ما يدفعها دفا للتشيؤ والسلعية، أنه حين يجهضها إنما يجهض البراءة الموجودة فيها، وهو لا يطردها أو يرميها، بل أن علاقتهما بعد ذاك هي التي تصبح مستحيلة.
أن العلاقة تعبر عن تمزق الاثنين: تمزق صاحب المصنع محمود "محمود المليجي"بين احتياجه للحب، وبين قيود المجتمع التقليدي ( الزوجة، الأولاد، الأصدقاء، العلاقات المفوضة.. إلى آخر كل مفردات الشق الاجتماعي الواجب احترامه) وكذلك تمزق البطلة العاملة سميرة بين حقها في الحب وبين استحالة وجود هذا الحب في إطار الشق الاجتماعي القائم، ويتجلي هذا التمزق أيضا في شخصية إسماعيل الذي يوافقه تارة، ويخالفه أخرى مشكلا في نفسه مرآة لأحد مكونات ذاتية محمود.
ولنا أ، نتساءل لماذا تغير الاسم من شلبية إلى سميرة؟ أن الأمر يعدو فقط كونه تأكيدا على المستوي السياقي لبنية الفيلم السلمية، فلو نظرنا للأمور من جهة أخرى لا نبثق أمامنا هذا التساؤل: أليس يمكن أن تكون شخصية أخرى؟ أليس هذا شكل من أشكال لتعميم التنمذج؟ وفي هذا الإطار نفهم عبارة: "صاحب مصنع القاهرة الكبرى.. للنسيج"، حيث يتوقف الممثل الكبير محمود المليجي، حيث ينطق هذه الكلمات بعد كلمة "الكبرى"لوان قليلة تكفي لكي نستوعب المعني المصاحب Connotation ، حيث تتبدي لنا كناية dissimulation مقصودة.
هناك تساؤل آخر بخصوص اختيار الممثلين وهو اختيار محمود المليجي لهذا الدور، لماذا؟ يكمن مفتاح هذا التساؤل في اسم "محمود "الذي يستخدمه محمود المليجي في الفيلم، فالتطابق في الاسم= تطابق في الشخصية، أي تطابق بين الشخصية السينمائية"محمود صاحب المصنع"وبين النجم السينمائي "محمود المليجي"بما يحمله من تراث ثقافي في ذاكرة المتفرج البصرية أي ما يترواح بين الشرير بلا قلب كما بدا في فيلم "غزل البنات"والفالح ذو القلب الكبير كما في فيلم "الأرض"وبالتالي فإننا نفهم التمزق الذي تعاني منه الشخصية محمود من خلال فهمنا لتراوح أدوار "محمود"النجم.
ولا يفوتنا أن نلاحظ أن هذا المشهد الملحمي يستعير بشكل كبير من فيلم مدكور ثابت التسجيلي الأول "ثورة المكن"، ولكن مبدأ الاستعارة في مفردات التكوين والفكرة العامة فقط، أي الآلات والعلاقة بين الإنسان والآلة، إلا أن هناك طبقا كاملا بين الاثنين، ففي "ثورة الممكن"نري الآلات ترقص على الموسيقي الموضوعية، وهنا الآلات صامته والإنسان يتكلم في انفصام عنها، في "ثورة الممكن"الآلات تتحرك في سرعة ولا تتأملها الكاميرا، هنا الآلات بطيئة تتأملها الكاميرا متعجبة، أن "ثورة المكن"تعبير عن تلاحم الإنسان مع الآلة في مجتمع مثالي، أما هنا فتعبير عن اغتراب الإنسان وتمزقة في المجتمع الرأسمالي.
ولا يفوتنا أن ننوه بديكور حجرة المعيشة والنوم والساعة التي تزين الجدار والتي يتم التركيز عليها في لقطة كبيرة، إذا يذكرنا جو هذا الديكور بالأفالم الألمانية التعبيرية الصامت لمورنا وفينة ولانج: من أمثال "فاوست"، و"عيادة الدكتور كاليجاري"و "متروبوليس"، حيث الجو الكابوسي والكآبة التي تنبثق من ديكور الفيلم، وهو ما يوحي به إلينا الديكور هنا، وكأنه يتنبأ بمصير قاطنته أو الموت والفشل المتربصين بها، أنه نذير قدرها المحتوم، ويتلاءم هذا الجو النفسي المقبض مع الجو الكابوسي للمشهد القادم، أما الساعة فتقوم بمهمة الشاهد على الجريمة التي ترتكب في حق الإنسان في هذا العصر، إنها الشاهد وهي"يمقلتي"الحكم في مباراة الكرة هذه المأساة.
ولقد تكلمنا عن أهمية وجود الفتاة غير الواضحة out of focus في خلفية الكادر وهي ترسل القبلات إلى محمود في مقدمة الكادر، ونري أنها بمثابة بدل للصورة وهذا البديل موجود في كل المشاهد الملحمية زينب الخادمة، شغل كايرو سالومي في المشهد الملحمي الثالث، العاهرات الثلاث في المشهد الملحمي الرابع، فهذه اللقطة إذن تقيم جسرا بين المشاهد المحمية بعضها البعض، أي نفس فكرة ألياف الإسقاط السابق ذكرها، وهي طريقة أخرى لربط الإيقاع الداخلي للمشاهد.
ويتم كسر الوهم هنا من خلال القفزة المكانية للسياق مع استمرار سياق الحوار بين م حمود وصديقه إسماعيل، وهو ما يحث عملية تنبيه فسيولوجية من خلال عدم اتساق المرئي مع المسموع، وهي أيضا مجموع حسابي لعملية الكسر السمعية في المقدمة والكسر البصرية في المشهد الملحمي الأول.
وهمزة الوصل بين المشهد الملحمي الثاني والمشهد الملحمي الثالث تتم عن طريق المونتاج الصوتي من خلال اتساق شكلي بين كلمات محمود:"تعرف يا إسماعيل أن أنا بأفكر أبلغ البوليس"وكلمات حسونة: "لازم أبلغ"الأولي تنتهي فصلا ومشهدا ملحميا، والأخيرة تبدأ مشهدا ملحميا آخر.
المشهد الملحمي الثالث يبدأ بنفس فكرة الانتقال البصري المكاني، مع الاستمرار في السباق الحواري، فبعد وصول حسونة المغربي إلى قراره بعدم الإبلاغ وهو يهبط السلالم، نراه في اللقطة التالية يحرق الجريدة ويلقيها في الحديثة، ثم يتحرك متجها إلى حفلة تنكرية وهو يقول "الوداع يا فافي"تمنياتي لك بالجنة، وهو هنا لا يكرر عملية الوهم، إذا تفقد هذه الحيلة قوتها بتكرارها وبالتالي الاعتياد عليها، أنه يكتفي هنا بربط المشهد سياقيا بالمشهد السابق، ليتفرغ لإعداد المتفرج للجو الفانتازي الذي سيدخله معها، بينما يذكرنا هذا الجو بمفرداته التكوينية سواء الحفل أو الأشخاص أو الأقنعة أو الملابس الغربية بفلمي فيلليني "جوليتا والأشباح"و"ساتيركون"، ليشكل ذلك ما يسمي لغويًا بالإحالة، حيث لنا أن نبحث عن معني حفل مدكور ثابت الفنتازي في حفلي فيلليني في جولتيا والأشباح وساتيريكون. إن حفل ساتيركون يعبر عن انهيار المجتمع الروماني، كما يقصد فيلليني إلى أن يشيء إلى تفسخ المجتمع الغربي على مثال نظيره الروماني فهل يقصد مدكور إلى أن يشير على الانهيار الذي أصاب المجتمع المصري وتفسخه بعد هزيمة 1967 الدامية؟ هذا بالإضافة إلى أن جولينا فيلليني تنفصل تمامًا عن هذا الحفل الذي أقامته في دراسها؛ وبما يعني أن فيلليني يشير هنا إلى اغتراب إنسان هذا العصر داخل مجتمعه، أي ذات ما يقصده مدكور ثابت كما لا حظنا منذ البداية.
من ناحية أخرى فإن الإنسان يميل عند فيلليني إلى الحياة مع الأشباح والكوابيس، أي الحياة في الوهم، بينما يتم التوصل لهذا المعني من خلال مفردات متعددة:
1- التقمص (الشخصيات الذكرية مثل نيرون والمسيح وسالومي وهيرود).
2- القناع (الخرتيت ووحوش غابة الآدميين).
3- النكوص (العودة إلى الطفولة والنظر إلى أن كل شيء مجرد لعبة9.
4- الشر والمال والحياة المتفسخة.
ونجد الطفل عند فيلليني طفلاً مريضًا يستنفد غرضه من اللعبة ويرميها. إنه طفل نرجسي مدمر يعميه حب الذات وشهوة التملك عن أي شيء إنساني، أي ما يتناقص بشكل صارخ من طفلة المشهد الملحمي الأول عند مدكور ثابت التي تمثل البراءة والحب، الأمر الذي يعيدنا إلى علاقة طباق أي تصادم، فالصحفي يتناقض هذا (فعلاً) مع موقفه السابق (كلاميا)، وتتناقض طفولة المضارب مع طفولة الطفلة البريئة، بينما لا ينفي هذا مرة أخرى وجود بنية سلمية أساسية للفيلم التي تتضح من خلال تغير اسم القتيلة، والذي أوضحنا كيف يمكن فهمه على مستوى التعميم.
ويعود مدكور ثابت في هذا المشهد الملحمي إلى إشكالية "حب المثقف"، ولنفهم تكوين راشد وماجدة من خلال تكوين ثلاثي المستويات يظهر فيه راشد وماجدة يضحكان ويشربان، وتقول له في سعادة: "أنت لما بتشرب بتبقى راشد اللي يحبه"، وهما في المقدمة.
أما خلفهما مباشرة، فيميل الخرتيت على حسونة المغربي ويضحكان في سعادة، بينما تشكل إن السادة هنا تتعادل عند الجميع وتتخلق من خلال الشراب والرحلة إلى عالم الأشباح والوهم والخيال، وهذا التكوين العميق الذي يحتل راشد مقدمته، إنما يكشف لنا بوضوح عن شخصية هذا المثقف العاجز الذي يجب ذاته الأنانية ويستخدم كلماته الكبيرة بمثابة ستار يخفي وراءه عجزه الفعلي- هذا العجز الذي ينكشف عند أو محك وبمجرد الشرب.
إن مدكور ثابت بهذا المشهد الملحمي، إنما يسبق يوسف شاهين في تقديم الفيلم التبوئي، وهو يشابه فيلم جودار الصينية"، الذي تنبأ بأحداث مايو 1968، فمثله مدكور ثابت يتنبأ 1969 بوصول فئة المضاربين والسماسرة من أمثال حسونة المغربي إلى قمة السلطة وأعلى المرتب الاجتماعية. ولقد تحول هذا التنبؤ إلى حقيقة بعد أعوام قليلة.
وكان كلام حسونة للخرتيت عن "الشلوت الاسترليني"، على سبيل المثال، سابقًا لأوانه. فلم تكن السوق السوداء/ الموازية كما هي عليه الآن، ولم يكن سعر الدولار قد بلغ ما بلغه. وكان الكلام في المشهد عن انتهاء شغل كايرو وأن لعبة السنة دي هي شغل روما "|(المقصود روما القديمة) هو من قبيل رجم الغيب، الذي لم يتحقق إلا عام 1981، وكان المشهد كله كان إهداء إلى العشب المصري. وبالتأكيد فإن السينما عندما تصل إلى أعلى مراحل نضجها لا تكون فقط أداة لقراءة الواقع وفهمه، ولكن أيضًا أداة لاستقراء هذا الواقع وتغييره. لقد تحققت تلك النبوؤات التحذيرية أو التحذيرات التنبوئية، وربما كان هذا أحد جوانب الإجابة على التساؤل: لماذا لم يقدم مدكور ثابت فيلما روائيًا آخر في الفترة من 1969 وحتى الآن، ومازالت صورة الإجابة لم تكتمل.
إن المشهد كله بما فيه من مفردات تغريبية وإبهامية إنما يشكل كسرًا للحاجز الوهمي على المستوى الدرامي. وأبرز مظاهر كبير الحاجز الوهمي في إطار الحدث هو ظهور الشخصيات الرئيسية الثلاث في الحفل فجأة وون مقدمات، وكأنها متسقه مع جو المشهد كله: أتت من اللازمان واللامكان، وترى هنا كيف تطورت التجربة، فبعد أن بدأت سمعية في المقدمة أصبحت بصرية في المشهد الملحمي الألو، ثم سمعية بصرية في المشهد الملحي الثاني. وها هي نقلة كيفية في التجربة، فكسر الوهم يتم دراميًا من خلال مفاجئتنا بالشخصيات في جو وهمي خالص، ومن هنا تزداد جدلية الحوار بين الفيلم والمتفرج.
المشهد الملحمي الرابع يقدم احتراف الفتيلة/ الصورة للدعارة، ويتغير أسمها ثانية إلى دربة، وتقوم عتلاقة بينها وبين يوسف (أحد الشابين اللذين أدعيًا قتلها) ويوسف يسأل مدكور ثابت في هذا المشهد الملحمي "لكن المفروض أن أنا القاتل؟.
إن هذه العلاقة تكشف عن استحالة حصول هذه الفتاة على الحب، أي استحالة وجودها كإنسانة، فرفضها المتكرر للكلام عن الحب يعبر عن وعيها بعد رحلتها الطويلة بعدم وجود مثل هذه الكلمة في قاموسها اللغوي، أي أنه يوضح مدى سليتها وتشيؤها، وبالتالي فإنه يعبر عن ضياع حلمها الواهم الذي نراه في الفصل الأخير، أي الذهاب إلى المدينة، وهي بالتالي تحصر نفسها في إطار العلاقة المهنية. إنها على حد تعبير زميلاتها العاهرات تعرف إزاي تأشط الزبون"وهي قد كونت لنفسها من واقع الحلي التي ترتيدها ثروة معقولة، ومن ثم فقد وصلت هنا قمة السلعية، أما الخطوة التالية لها في السلم فهي الموت. وحينما يطلب أو يسأل يوسف مدكور ثابت: "المفروض أن أنا القاتل"لا يكون الاستفهام بقصد التساؤل بل يقصد الإثبات: "أنا القاتل"أي "أنا قاتل أناي الأخرى". فهو سؤال بغرض إثبات وجود الذات، ومقاومة التمزق والضياع. ولقد أشرنا كيف يتم استخدام اسم موحي للقواد "عبد الغني"باعتباره عبدًا لمن يدفع، ويؤكد هذا المعني سخرية إحدى الفتيات منه: "جبت الغني يا عبد الغني؟.
ويعود مكور ثابت ثانية لاستخدام مفردات السينما القديمة من خلال استخدامه ديكور الحانة، والأغنية التي تذاع من مذياعه قديم، وميزانسين على البار. وكل هذه المفردات تعيد للأذهان المواقف المتشابهة والتي تكررت ألوف المرات حين يفقد المحب حبيبته في السينما المصرية.
وبالتالي فهمي إعادة لموقف السخرية السابق تفصيله في المشهد الملحمي الأول، وأيضًا تأكيد على خطورة هذه السينما القديمة بكل مفرداتها، وإمكانية تسللها لاحتواء الجديد، وهي إلحاح على أهمية دراسة القديم واستيعابه لتجاوزه من خلال نظرية هادية وإيديولوجية ثورية.
ويؤكد على هذه المعاني ظهور مدكور بشخصه مرة ثانية، فدخوله ضمن نجوم فيلمه يعمل بشكل مباشر على كسر حاجز الوهم بينه وبين المنفرج. إنه يبدو وكأنه يخاطب الناس قائلاً: "ها أنا ذا أحاول وأريد مساعدتكم". إن الكسر هنا خطابي ومباشر، فهو ثمرة الحوار المستمر.
مع المتفرج. والمباشرة أو الخطابية هنا ليست عيبًا بل هي إضافة قوية لمعني ومبني الفيلم. لكل مقام مقال هذا هو الدرس الذي استوعبه مدكور.
واستخدام الخطابية يعتبر نقله كيفية أخرى في عملية كسر حاجز الوهم، وبالتالي فهو يرفعنا درجة في عملية الحوار مع المتفرج. فكما قلنا يعتبر "كسر حاجز الوهم النسبي والمتكرر"هو الأسلوب الذي أرتآه مدكور ثابت لخلق حوار مع متفرجة، وهو أسلوب يستقيه من بريخت ومن "سينما الحقيقة"لجان روش.
ومن ثم لنا أن نفترض أن هناك بنية سلمية تدريجية مشابهة لبنية الفيلم تحكم العمليات المتكررة لكسر حاجز الوهم. ويوضح الشكل (5) هذه البنية. ويمكن مقارنته مع شكل (2)، وتطابق بنية الفيلم مع بنية طريقة الحوار هو إحدى طرق التعرف على الفيلم وفهمه.
شكل (5)
المشهد الملحمي الخامس يأتي ممثلاً العودة للريف، ويعني هذا عند مدكور ثابت العودة إلى لأصل، وكما ذكرنا لا يعني وجود فكيهة في آخر المشاهد الملحمية إفقادًا لبنية الفيلم السلمية، بل العكس، فسعلية فكيهة أمر لابد منه- وهو ما أوضحناه في شكل (3)- فالبنية لا تعني الترتيب السياقي.
والعودة للأصل عند مدكور ثابت أو العودة للريف تساوي العودة للبراءة والطهارة فهي تعبر عن حنين ذاتي وإشكالية شخصية للغاية: الحنين الدائم للريف والطبيعة، في مواجهة قوة جذب طاغية من المدينة والثقافة.
فازدواج الطبيعة/ الثقافة، وهو ازدواج أولى في الأنثروبولوجية البنائية، يتحول عند مدكور ثابت إلى ازدواج المدينة/ الريف، ويقدم من خلال هذا الازدواج مجموعة ازدواجات مترادفة: البراءة/ فقدان البراءة، التماسك/ التمزق، الخ.
وهي إشكالية شخصية وذاتية تعود بنا إلى إشكالية أزمة المثقف مرة أخرى حين يقدم مدكور ثابت في شخص الأب الريفي مقابلاً موضوعيًا للمثقف: الأب الذي عنده الشرف يعني كل شيء، والأرض هي الشرف، ومغادرة الأرض وتركها تعني فقدان الشرف، والموت هو التعويض الوحيد عن ضياع الأرض/ الشرف؛ أنه نقيض لمحارب الكلمات، فكيهة عند الأب هي مصر عند مدكور ثابت، ومدكور يعود لاستخدام الذاتية الحرة غير المباشرة معبرًا عن تمزق داخلي يعانيه، من خلال كلمات الأب "صورتك المقتولة يا بنيتي فيها صورة بلدنا كلها". والذاتية الحربة غير المباشرة تتأكد من خلال المواجهة (الأب يواجه الجمهور)، والصوت الآتي من الخارج غير المتزامن مع اللقطة الكبيرة. ونلاحظ هنا لماذا قام ممثل غير معروف "عم رزق"بهذا الدور، فعم رزق لم يمثل أبدًا، وبالتالي فليس له تراث ثقافي عند المتلقي. أننا نقبله، كما هو عليه فلاح بسيط قوى ولا ينفع أن يقوم بهذا الدور ممثل تقليدي مثل شفيق نور الدين أو محمود المليجي لأن مدكور ثابت لا يقدم نموذج الأب المتفاني الذي يسرق مثلاً من أجل أولاده، بل الأب الواقعي، تمامًا كما أوضحنا. بلدنا عند الأب لا تعني قريتنا، بل أرضنا مصر. أنه لا شابه محي الشاب الضائع الذي يبحث عن بلدياته. فالأمور عند الأب واضحة تمامًا: الأرض تعني العرض ولا تفريط في أيهما.
ويقدم مدكور ثابت في هذا المشهد شخصية أخرى هي "السقا"الذي كان يريد الاقتران بفكيهة، ويخلق من خلال التشابه الشكلي ( الجناس) علاقة بينه وبين مسيح المقدمة المصلوب، ولكننا لا نري رابطة معنوية بين الاثنين، فهي جناس فقط، وسنتحدث بالتفصيل عن ذلك عند الحديث عن الشكل الشعري في الفيلم.
إننا نلاحظ أن الشخصيات الرئيسية لا تظهر هنا ولا يحدث أي ذكر للبوليس والإبلاغ، أي لا يوجد شعور بالذنب أو إدانه هنا، وهذا ما يؤكد على المعني الذي ذكرناه: الريف هو الأصل وهو البراءة عند مدكور ثابت، والاب الفلاح الواقعي هو النقيض الأساسي لشخصية راشد المثقف، وهي إشكالية ذاتية عند مدكور ثابت.
نلاحظ أيضا أن الجريدة التي بها الصورة يتم إلقاؤها في النيل وتجري مع التيار، كما لا تظهر بديلة لفكيهة هنا مثلما ذكرنا في كل مشهد، بل تظهر فكيهة بشخصها تطحن الحبوب في الرحاية وتفكر في القاهرة والبندر وترفض الزواج من السقا، ذلك أنه لا داعي للتعميم باستخدام البديل هنا، فالجريدة التي تسبح تؤكد على فكرة التعميم، فحلم كل فتاة ريفية بالذهاب إلى البندر، وهو حلم فكيهة، تعميم معنوي سيؤدي نفس معني التعميم الشكلي.
أن هذا المشهد الملحمي يمثل ذروة الفيلم ونهايته، وفي ضوء هذا التحليل نفهم لقطة الرقص الأخيرة التي تجمع كل أفراد الفيلم ومجموعة العمل فيه، مع ظهور مدكور ثابت يحرك إصبعه ويرقص، وإنطلاق ضحكات محمود المليجي الساخرة مع اللوحة الأخيرة التي تعتبر بديلا عن النهاية، فلا وجود لنهاية الحوار الذي بدأة الفيلم، وإنما عليان أن نعتبر مع مدكور ثابت نفسه، أن الفيلم كله يضعنا في مواجهة "نكتة سخيفة"كان علينا تحملها لمواجهة واقع سخيف، بالاختيار بين الفعل أو النسيان. ولكن ليس التطهير.
الشكل الشعري
سنفترض سؤالا محددا: هل يعتبر فيلم "صورة"قصيدا سينمائيا؟ وهو سؤال لا يمكن أن نجيب عليه قبل أن نحدد إشكالية الشعر في السينما، ومن ثم فسنتخد من رأي بيير باولو بازوليني في سينما الشعر أساس لفهم الشعر في السينما، حيث الذاتية الحرة غير المباشرة هي أحد أهم مقومات الشعر في السينما، ولكننا نضيف إليها عنصرين: البناء الشكلي، والمفردات الشعرية، ونقصد بالبناء الشكلي الشعري البناء المخالف للبناء السينمائي التقليدي، ولنفهم هذا نعود إلى الأدب، أن قراءة قصة موت معلن لجابرييل جارسيل ماركيز توضح لنا فكرة البناء الشكلي غير التقليدي، فهي أقرب إلى الدائرة مع التنويع على نفس النغم، فالرواية تبدأ بموت بطلها "سانتياجو نصار"في شكل خبر بعد عشرين سنة، ثم تبدأ بعد ذلك في تجميع الخيوط مع السنة معاصري المأساة: الأم، الأصدقاء القتيلة، الفتاة، الخطيبة، الخ، ومع تصاعد الأحداث نصل في نهايتها إلى موت البطل، سانتياجو نصار"ولكن في شك لحدث آني.
أن دورة الزمن هنا مقلوبة تبدأ بالمستقبل بوصفه حاضرا، وتنتهي بالماضي بوصفه حاضرا، وهذا البناء المخالف للشكل التقليدي يمنح الرواية قوة شعرية رائعة، ولكنه لا يكفي لكي نعتبرها شعرا، وبالمثل يكون الأمر في السينما، ففيلم "ظلال على الجانب الآخر"لغالب شعث مثلا، يمثل خروجها على الشكل المألوف، وكذلك فيلم "الأقمر"لهشام أبو النصر مثال آخر، "فالظلال"رؤية مشابهة لرؤية بيرانديللو المسرحية، من حيث وجهات النظر المتعددة لحادثة واحدة، وكذلك "الأقمر"الذي هو تنويع على ننفس النغم، ألا وهو الارتباط بالمسجد، ويأتي "الظلال"أقرب ما يكون إلى الدوائر المتداخلة في شكله، أما "الأقمر"فهو أقرب إلى التمحور حول المركز، ولكن خلو الفيلمين من المفردات الشعرية لا يتيح لنا اعتبارهما شعرا سينمائيا.
والمفدرات الشعرية السينمائية تستمد أساس من النسق اللغوي القومي أولا (في العربية: التشبيه الاستعارة، الجناس، الطباق، إلى آخر أنواع البديع والبلاغة)، ومن النسق اللغوي الشعري العالمي ثانيا ( الإيقاع، الرمز، الخيال، الجو الموحي)، إلا أن استخدام هذه المفردات لا يكفي لكي نعتبر العمل شعرا هنا، ونعود للأدب لنوضح ما نقصده.
تذخر قصة الصورة الأخيرة في الألبوم لسميح القاسم بالمفردات الشاعرية من استعارة إلى تشبيه إلى الجو رمزي، الخ، إلا أنها تتخذ الشكل السردي التقليدي ذي البداية والحبكة والنهاية مبني لها، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن ننظر إليها بوصفها شعرا، ولكن بوصفها قصة تقليدية كتبها شاعر قدير.
ويتضح المقصود في السينما عندما نستدعي اللقطة الشهيرة لظهور القرنين لحمدي أحمد بعد زواجه منت سعاد حسني في "القاهرة 30"لصلاح أبو سيف: فصلاح أبو سيف يترجم ترجمة حرفية الكناية الشعبية"طالع له قرنين"ولكن صلاح أبو سيف نفسه يظهر لنا أستاذية وتمكنا في استخدام التشبيه من خلال لقطة عميقة، يقارن فيها بين شكري سرحان الأزهري وبين الحمار المربوط في الساقية في فيلمه "شباب امرأة"مثلما يظهر الشتبيه في فيلم"العصور الحديثة"لشارلي شابلن، حيث لقطتي الخروج من المصنع وتدافع الأغنام؛ إلا أن استخدام كل هذه المفردات لا يكفي لجعل الفيلم شعرا، فهي مجرد أسلوبية شعرية في إطار حكاية وشكل روائي تقليدي.
ويتضح لنا مما سبق ضرورة وجود العناصر الثلاثة في الفيلم: الذاتية الحرة غير المباشرة، والشكل اللاتقليدي، والمفردات الشعرية، كما هو الحال في فيلم أنطونيوني "الصحراء الحمراء"أو في فيلم زيفريللي "أخي القمر أختي الشمس"حيث تنضم خاصية التواصل الشعوري الوجداني إلى العناصر الثلاثة.
ولو نظرنا إلى فيلم مدكور ثابت لوجدنا أن العناصر الثلاثة موجودة فيه، فاستخدام الذاتية الحرة غير المباشرة موجودة كما أوضحنا، كما أن البناء الشكلي يختلف تماما عن البناء التقليدي، سواء من حيث السلم أو الشمس متعددة الاشعة، أو من حيث التداخل بين المشاهد الملحمية، مما يعطي شيئا أشبه بالتنويع على نفس النغم والدوائر المتدخلة، وكذلك نجد استخدام المفردات الشعرية بكثرة، مثل الطباق بين القول والشكل ( في المشهدين الملحمين الأول والثالث وقد فصلناه) ومثل الجناس الشكلي بين المسيح المصلوب في العنوان والسقا حامل صفائح الماء في المشهد الملحمي الأخير، بالإضافة إلى الاستعارة من أفلام "ثورة المكن"لمدكور ثابت و"جوليتا والأشباح"و"كوفاديس"(شخصية نيرون)، من التمكن من الجو الموحي ( فصل الفانتازيا، ديكور الحانة، المقابر، الخ) وكذلك قوة الرمز( الصورة، الشخصيات، الخ).
ومن ثم فقد توفرت لسينما مدكور ثابت كل عناصر سينما الشعر التي فصلناها، وبالرغم من أن خاصية التواصل الوجداني في الفيلم متكسرة، ولكن عن عمد، فالفيلم يعمل على خلق حوار عقلي كما بينا، ويطلب الانتباه الدائم ويشير إلى أمور بعينها، وبينما أن هذه الخاصية ( التواصل الوجداني) هي التي تيمز الشعر أساسا، ولذا فنحن لا ننظر إلى الفيلم باعتباره من سينما الشعر، لأننا نفترض أنه لا يمكن بناء سينما الشعر هذه على "أسلوب الكسر النسبي للوهم"الذي يعلنه ويسميه مدكور ثابت بنفسه، سواء من خلال أحاديثة المنشور، أو تنظيراته المكتوبة، بل ونزيد أنه لا يمكن وجود سينما الشعر في مصر في الآونة الحالية على الأقل، وهو ما نرجعه أساسا لاختلاف التكوين الطبقي والطبيعية الاجتماعية التي أدت إلى ظهور سينما الشعر في أوربا الغربية، ولكننا قد نكون إزاء شعر آخر، عبر سينما أخرى.
خاتمة:
حتما بعد أن نشاهد الفيلم لابد أن نسأل أنفسنا: لماذا لم يقدم لنا مدكور ثابت فيلما بعد "صورة"؟ لماذا تحولت"الصورة الممنوعة"إلى "منع لصورة مدكور"ثابت"؟ ولكننا نؤجل الإجابة على هذا الأسئلة وأمثالها، لنضع أمامنا سؤالا آخر: هل ينجح فيلم مدكور ثابت لو عرض الآن بعد ما يقرب الربع قرن من الانتهاء منه؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن أن يتقبل الجمهور فيلم مدكور ثابت بوصفه فيلما يعبر عن حاجة أساسية لديه؟
سيسارع البعض الإجابة أ، الفيلم للمثقفين فقط، فهو فيلم تجريبي كما يؤكد المخرج وكما اتضح لنا، والدليل هو هذا التحليل المليئ بالإحالة والاستعارة والإشارة للكتب والمراجع والأفلام، الخ، وهي إجابة صحيحة لو نظرنا إليها إجابة تعكس نظرة قدمها مدكور ثابت، نظرة المثقف وقضاياه الكبيرة، وهي تعكس بوضوح عجز هذا المثقف مع قضاياه الكبيرة عن حل أزمته ومشكلته.
وتكمن إجابة التساؤل الصحيحة في فهم سبب اختيار "القالب البوليسيي"أي ذات ما فعله جودار أيضا في فيلمه"على آخر نفس"، ذلك أن شد الجمهور للأفلام التي تتكلم عن قضايا مصيرية ومشكلات حقيقية لن يأتي عن طريق ترداد أبله لأسطوانة مشروخة عن الجوعي والبؤساء والمرضي والأغنياء البكوات، إذا هيس مفردات ميلودراما متكررة، تماما مثلما يقول جارسيا ماركيز:"أن القارئ لا يحتاج إلى من يقص عليه مآسية واضطهاده وغياب العدالة الاجتماعية، أنه يعرف كل هذا ويعاني منه يوميا، وإنما هو بحاجة إلى أدب جديد، ففي الأدب الجديد تحريض وتوعية".
والحقيقية الرائعة في السينما التي نحن بصدد تحليلها هنا، أن المتفرج لا يمل فيلم مدكور ثابت بل وكما قلنا في ختام كلامنا عن المشهد الملحمي الخامس، يكون موقفه النهائي إما الفعل وإما النسيان بتقبل الأمر على أنه واقع نكتة سخيفة.
أن مدكور ثابت في هذا الفيلم يقدم سينما جديدة بحق، بل وعن وعل كامل وتمكن تام من مفردات وقواعد السينما السائدة، ومن هنا تكثر الاستشهادات والإحالة والاستعارة، وفي فيلم مدكور ثابت يجد كل إنسان ذاته ولكنه لا يفقد للحظة كيانه المستقبل، وتلك هي قمة الورعة في لحظات السينما الجديدة المتفردة أن المتفرج يظل مرتبطا بالفيلم ويظل في عملية جدل داخلي مطردة من خلال دخوله وخروجه المتتابعين، يندمج في لحظات وينفصل في لحظات أخرى، تثير عنده اللقطات تساؤلات وتردد عليها لقطات أخرى بتساؤلات جديدة وإجبات تخلق تساؤلات، وكل هذه يضع المتفرج أمام إشكاليات متعددة، لتيحاور مع الفيلم ومع شخصياته ومع المخرج، وفي النهاية مع ذاته كمتفرج.
أن فيلم مدكور ثابت ليس فيلما اقعيا فقط، ولكنه أيضا بمثابة هضم لكل تجارب السينما المصرية في الواقعية، بداء من "العزيمة"لكمال سليم وانتهاء بـ "الأرض"ليوسف شاهين، مرورا بـ"السوق السوداء"و "شباب امرأة"و "الفتوة"وصراع في الوادي" "وباب الحديد"و الخ، فالفيلم عبارة عن تمثيل لكل تراث السينما المصرية وثمرة لهذا التراث، أن الفيلم لم يكن قد أتي سابقا لأوانه، وكلنه أيضا يأتي اليوم في أوانه، وهنا تكمن قوته وسر بقائه، أن الجزء التنبؤي لا يمكن عزله عن السياق بل لا يمكن فهمه دون الرجوع للسياق.
لقد عبرت السينما المصرية دائما عن إيديولوجية البروجوازية المصرية ولا يجب هنا أ، نقع في اليسارية الصبيانية التي تري في البورجوازية رجسا من عمل الشيطان، بل يجب أولا تفهم طبيعية هذه الطبقة المترددة بين الثورة والحافظة، وبالتحديد ووفق طبيعة المرحلة التي تعيشها بلادنا مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية فإنها تردد بين مواجهة الاستعمارة وبين كبح الطبقات الشعبية ومهادنة الاستعمار والسينما مثلها تتردد بين الواقع وتقديم أفلام تعبر عن النبض الجماهيري.
وتعلو بالوعي الطبقي الشعبي، وبين الوهم وتقديم أفلام مخدرة وتطهرية.
وفيلم مدكور ثابت يأتي في هذا الإطار بعد هزيمة 67 المرة، ليكمل فيلمه التسجيلي الأول "ثورة المكن"ففي "ثورة المكمن"يرصد مدكور حركة الجماهير المصرية في 9-10 يونيو التي هي تعبير واضح عن هزيمة الطبقة الحاكمة ورفض الشعب لهذه الهزيمة، فآلات مدكور في "ثورة المكن"هي هذا الشعب الذي خرج إلى الشارع مطالبا بعودة جمال عبد الناصر، رافضا الرضوخ للهزيمة، وهي ردة فعل عفوية لا تجد بديلا طبقيا محددا فتختار أهون الضررين، ولكن مدكور في فيلمه"صورة"يطور هذا الرصد إلى تحليل ونقد لدور هذه الطبقة التي أدت إلى الهزيمة وإدانتها بكل شرائحها، بما في ذلك مثقفيها اليساريين، أنه هنا يتخلي عن الشكل الرصيد إلى الشكل النقدي، مطالبا بإيجاد بدليل، متسائلا عن كيفية إيجاده ضمنيا، أنه يكشف عجز هذه الطبقة وعيوبها وتفسخها ويتنبأ بما يمكن أن تصل إلهي طالما لم تحدث عملية تغيير جذرية في ميكانيكيات النسق الاجتماعي تؤدي إلى تغيير شامل في البنية الاجتماعية.
وهذه هي إجابة السؤال أيضا: مدكور ثابت لا يتنبا فقط بظهور فئة الطفيليين والسماسرة، ولكنه يتنبأ أيضا بعجزة عن تقديم فيلم جديد في إطار هذه الطبقة دون حل اشكاليته الذاتية أنه هنا يقدم مثالا حيا لارتباط الفنان بالواقع، ففيلم مدكور ثابت إدانة لسينما السبعينيات بأكملها باستثناء أفلام يوسف شاهين، وفيلم "السقا مات"لصلاح أبو سيف، فلا يمكن ومدكور ثابت يسخر المرة تلو المرة من السينما القديمة أن يعود ليكون أحد أساطينها، وبالتالي يأتي فيلميه الكوميدي "الولد الغبي" (1975) سقطة مباشرة تحسب عليه، ولكنها سقطة تنسق مع الواقع المحيط في السبعينيات. وإذا كانت الثمانينيات ومن بعدها تبدأ التسعينيات بسينمائيين جدد وأفلام جديدة، تعكس التغيرات التي حدثت وستحدث في البيئة الاجتماعية، تسبقها أحيانًا وتلحقها أحيانًا، ولكنها أبدًا لا تتطابق معها، فالواقع متغير والفن متغير والنظرية رمادية لكن شجرة الحياة خضراء دائمة الاخضرار، لنكرر القول فلي الختام عن سينما مدكور ثابت، إن فيلمه لم يكن قد أتي سابقً لأوانه عندما قام بإخراجه عام 1969، ولكنه يأتي اليوم أيضًا في أوانه، وفي هذه الجدلية سوف تكمن قوته والسر في بقائه مختلفًا كل الاختلاف.