عن التأثير التكنولوجي على تحقيق المخطوطات
وقضايا النص التفاعلي
أ.د. أسامة القفاش
مقدمة:
1- مقدمة نظرية: في المفاهيم:
التعامل مع المخطوط على الشبكة العنكبوتية أمر مختلف تماما عن التعامل مع المخطوط الأصلي، هذه التفرقة لا تتعلق بالتفضيل أو استحسان هذا أو رفض ذاك، إنها تتعلق أساسا باختلاف المجال المعرفي الذي ينتمي له كل صنف.
ففي تقديري يبدو مجال الأركيولوجيا أو الحفريات هو مجال التعامل مع المخطوط الأصلي؛ سواء في شكل المايكروفيلم أو في شكله الأركيولوجي أي باعتباره أثرا حفريًا يستخدم بحرص ويحتاج لتصاريح وآلات وفنيين للوصول إليه.
في حين ينتمي التعامل مع المخطوط المتاح على الإنترنت أو الشبكة العنكبوتية إلى مجال علم الأفكار وتحديدا لفرعه التاريخي.
فالتعامل الملموس باليد يعني الاهتمام بعدم المساس بالمخطوطة، والحفاظ على حالتها، وكما أخبرنا الكاتب الكرواتي البوسني ميركو يرجوفيتش في مجموعته الشهيرة سراييفو مارلبورو (1): "الكتب، وبالتأكيد المخطوطات هي آخر ما يهتم به المرء في زمن الحرب والجوع"؛ ولذا نقول: المخطوطة الواقعية هي أثر أو تحفة أو مقتنيات ثمينة أكثر منها موضوعًا.
في حين أن المخطوط الافتراضي هو جزء من عالم المعرفة التاريخية، أو تسلسل وصول الفكرة إلينا، فهو منتج فكري يمثل حلقة من حلقات تاريخ فكرة معينة في مجال معرفي محدد.
كان لابد من هذه المقدمة للتفرقة بين النوعين؛ وذلك تمهيدًا لتوضيح مجموعة من المفاهيم الضرورية في هذا الموضوع.
وأهمية إيضاح هذه المفاهيم تكمن في كونها تستخدم دون اعتبار وضعها الزمكاني، بل تستخدم وكأنها بديهيات مطلقة، وهي ليست كذلك.
فمعاني المفاهيم المقصودة تتصل بصيرورتها الزمكانية؛ لكي توضح تحيزاتها المتنوعة التي تؤثر في النص نفسه.
ولكي يتضح الأمر أكثر نقول: إن مفهومًا مثل مفهوم "النص"له اعتباراته اللغوية، ولكن أيضًا له اعتباراته الزمكانية أو التاريخية؛ بمعنى أن النص عند ياكوبسون - من مدرسة براغ - يختلف عن النص عند تشومسكي وعلم النحو التوليدي.(2)
كما يختلف النص المنسوخ على ورق من البردي أو الكاغد عن النص المطبوع عن النص المتاح إليكترونيا؛ فالمفهوم متغير ومتحيز، وهذا لأنه جزء من خطاب متكامل.(3)
ويختلف النص عند أهل الدراما؛ حيث هو السيناريو أو السكريبت، عن النص عند أهل النقد الأدبي؛ حيث قد يكون قصيدة أو قصة أو رواية، وهذا لأن المفهوم مرتبط بعالمه المجتمعي والاجتماعي.
المفاهيم التي نريد مناقشتها هنا هي مفاهيم تتعلق بإنتاج النص أو المخطوطة؛ وخاصة في زمانها الأصلي، وهي كما يلي:
1- مفهوم المؤلف:
وهو كاتب النص الأصلي، أو مصنف المخطوط الأصلي، ومن هنا تأتي أهمية المخطوطات المكتوبة بقلم المؤلف نفسه.(4)
2- مفهوم الناسخ:
أي الشخص الذي توكل إليه مهمة نسخ المخطوطة، أو يتولى هو هذا بنفسه، وهي مهنة مثلها مثل مهنة الكتابة على الآلة الكاتبة في زمن الآلة الكاتبة. ولها مؤسساتها في الدول التي كانت تهتم بالكتابة والنسخ ونشر النسخ بين الجمهور مثل الدولة العثمانية (5)، (6) وهذا المفهوم/ المهنة يرتبط بالخط العربي، وبالتالي يرتبط بالفن في شكل من أشكاله، وهو ما حدثنا عنه الكاتب التركي الحائز على جائزة نوبل أورخان باموق
أورخان باموق
شكل (1)
في روايته الشهيرة "اسمي أحمر"(7)
شكل (2)
فمفهوم الناسخ يرتبط بفكرة الحرفية أو التفنن، وهو أمر مهم جدا في فهمنا للفروق المترتبة على التعامل مع المخطوطة باعتبارها أثرا أو وثيقة أثرية ملموسة والتعامل مع المخطوطة بالنظر إلى أنها نص معرفي.
3- مفهوم مالك النسخة أو طالب النسخة:
وهو المفهوم الثالث الذي نتعرض له
شكل ( 3 )
توضح الصورة السابقة فكرة ملكية النص/ المخطوطة؛ فهذه الصفحة قد أضيفت إلى المخطوطة بعد أن انتقلت ملكيتها لمالك جديد، فطلب إضافة صفحة تسجل ملكيته للمخطوط؛ أي تضيف بعدا اقتصاديا وماديا (يحدد قيمة المخطوطة وقتها)، وأيضًا بعدا دينيا أو شرعيا حيث إن المالك الجديد قد اشتراها ولم يغتصبها ولم ينسخها بنفسه.
وقد يكون مالك المخطوط من الذين يبحثون عن المخطوط لتزيين مكتباتهم، فهو من هواة الاقتناء bibliomaniac وليس من هواة القراءة Bibliophile
هاوي الاقتناء قد لا يقرأ الكتاب، ولكنه يهتم أكثر بحيازته وبتكوين مكتبته، وأما هاوي القراءة فلا يهمه شكل المخطوط، ولا كون النص مخطوطا أو مطبوعا؛ إنه يبحث عن النص في ذاته، وعما أسماه رولان بارت "متعة النص".
شكل (4)
بارت ونصوصه المهمة المتنوعة ستفيدنا جدا في استيعاب المفاهيم سالفة الذكر؛ بدءا بكتيبه المهم "متعة النص".(8)
Le plaisir du texte
http://palimpsestes.fr/textes_philo/barthes/plaisir-texte.pdf
وانتهاءً بكتابه الأهم "موت المؤلف".
شكل (5)
في مقدمة النسخة الانجليزية لكتاب "متعة النص"يقول الكاتب والناقد الأمريكي ريتشارد هوارد
شكل (6) ريتشارد هوارد
(أحد المتأثرين بمدرسة بارت البنيوية في النقد الأدبي): "إن بارت قد وجد طريقة ليفسر لنا اللذة التي يجدها المؤلف عند إنتاج النص" (9)
وهوارد هو صاحب العبارة الشهيرة: "دور الكاتب هو أن يكتب"،
(10) The role of the writer is to write.
المقاربة الأساسية عند بارت في هذا الكتاب هي أن هناك لذة للكتابة أو التأليف لا تعادلها لذة، وفي الأصل الفرنسي يحتمل المعنى كون اللذة ذات طبيعة حسية وجنسية.
ما علاقة هذا بالمخطوطات؟ الأمر يتعلق بالنص ولذته التي يحدثها في المؤلف؛ أي يتعلق بمفهوم المؤلف، وهنا نعود لنتكلم عن المؤلف المحب للتأليف الذي يعشق نصه، ومن ثم ينتجه بسبب هذا العشق، وبين المؤلف الذي ينتج نصا بناءً على أسباب أخرى. المؤلف في معظم المخطوطات، إن لم يكن في كل ما وصل إلينا، ليس من عشاق النص ولا من عشاق الكتابة، إنه يجيب عن أسئلة أو يشرح مسألة.
المؤلف في السياق الزمكاني الإسلامي ليس مشغولا بإنتاج النص بسبب عملي جدا، وهو مشقة إنتاج المخطوط، وأيضًا ارتفاع تكلفة إنتاجه؛ لأنه يحتاج إلى ناسخ، وهو أمر مكلف جدا جدير بمأسسته؛ أي جدير بأن تتولاه الدولة، وهو الأمر الذي لاحظه العلامة الهندي الرحالة شبلي النعماني إبان زيارته لإستانبول.(11)
شكل (7) شبلي النعماني
ومن ملاحظات النعماني أن النساخ في استانبول يصنعون فنا، ويشتغلون في أكثر من مكان، ويستخدمون أجود الخامات؛ لأنهم يعملون في إطار مهنة ممأسسة تتبناها الدولة. وهذا على العكس من الهند - كما يقول النعماني - حيث النسخ حرفة غير مربحة ومعظم النسخ يكتبها النساخ بخط رديء على حد قوله.
نستنبط من كلام النعماني أن النسخ كان مهنة أكثر جدوى من التأليف، وأن المالك كان يتحكم في النص أيضًا؛ لأنه هو من يتحكم في النسخ.
من هنا تتضح لنا أهمية المقدمة النظرية لإدراك المفاهيم السابقة التي تتعلق في الأساس بالمخطوطة الأثرية أي التحفة، وبالتالي نفهم أيضًا سبب نفاسة المخطوطة وحرص المالك على حفظها، ونفهم من عملية المأسسة التي قامت بها الدولة العثمانية لمهنة الخط لماذا توجد أكبر كمية مخطوطات في أرشيف الجمهورية التركية وارثة مركز العثمانيين.
وأيضًا نفهم سبب وجود المخطوطات في مكاتب التجار الكبار والمساجد؛ فقد كانت عملية النسخ والامتلاك مكلفة وتحتاج لتمويل، ومن هنا كان المالك أو طالب المخطوطة يوقفها في مكتبة المسجد أو يودعها على أنها ملك ثمين في مكتبته الخاصة أو "خزانة الكتب"كما كانت تسمى، ولنلاحظ هنا تعبير "الخزانة"وطابعه الاقتصادي.
ما دور المؤلف المسلم هنا؟
المؤلف ليس مشغولا بالتأليف؛ إن دوره الأساس (عكس كلام هوارد) هو الإجابة على الأسئلة؛ لأن مهنته ليست التأليف، بل مهنته العلم؛ أي إنتاج النص القابل للقراءة، أو كما قال بارت
( 12) Texte lisible
في العصر الاسلامي و بصرف النظر عن المكان لا يجد المؤلف متعته في التأليف كما هو حادث في النص الحداثي ، بل مهنته هي إنتاج النص بما هو معرفة مفيدة تجيب على الأسئلة، أو تناقش المسائل؛ أي تحل المشكلات وتطرح الإشكاليات باستخدام اللغة المعاصرة.
المؤلف في السياق الزمكاني الإسلامي ميت منذ البداية؛ لأن المهم هو النص. وهذا أيضًا رأي بارت في كتابه الأهم الذي ذكرناه آنفا "موت المؤلف"؛ لأن النص - كما يرى بارت - أصبح سيد الموقف نتيجة للتطور الاجتماعي.
في السياق الزمكاني الإسلامي المؤلف لا يهمه أن يكون موجودًا، ولا يهمه إنتاج النص القابل للكتابة texte scriptable - على حد تعبير بارت – ومع هذا فالنص أساس لأنه معرفي، وهذا همّ المؤلف. المؤلف هنا معني بوظيفة النص لا اهمية للنص عنده شخصيا . لماذا ؟ لعدة اسباب مادية ومعنوية . ماديا لان النص اثر يتطلب مجهود و يتطلب ايضا نقود اي موارد و معظم المؤلفين كانوا فقراء و تنقصهم الموارد . السبب الاهم في تقديري هو سبب معنوي ان النص يعني ترك اثر في الناس اي تحمل اوزارهم و اخطاء قد يرتكبونها بسبب وصول النص اليهم .
المؤلف في الموقف الاسلامي لا يريد ان يعظ و لا ان يدعو الى شيء فخشيته من الاثر السيء عليه اكبر من اعتقاده في فائدة نصه للناس و اكبر بكثير من اهمية نصه لديه . ولذا نجد ان معظم المؤلفين كانت لهم مهن اخرى و ان النصوص تنتج بسبب كما ذكرنا.
الناسخ في المخطوط الإسلامي أكثر أهمية من المؤلف من وجهة النظر المادية؛ لأنه هو من يكلفه المالك - وهو صاحب الأمر في نسخ المخطوط بشكل ممنهج – بنسخ النص، أو يشتريه منه منسوخًا.
مع التطور التقني وظهور الإنترنت وإتاحة المخطوط نصًا معرفيًا نستعيد البعد المعرفي في النص، وهو الأمر الذي يجب أن نتعامل معه عند تعاملنا مع المخطوط باعتباره نسخة افتراضية قابلة للتحقيق.
هذه الرؤية التي نقدمها في هذه المقدمة ستؤدي لنتائج عملية كثيرة؛ أولها هو هذا البعد: المخطوط المتاح على الشبكة العنكبوتية هو جزء من علم تاريخ الأفكار، وليس تحفة أثرية. وهذا يتطلب مزيدًا من الإتاحة ومزيدًا من فتح الخزائن وتصوير المخطوطات، وبالتالي إتاحة مزيد من النصوص وفقا لتعددية الناسخين، فكل نسخة هي نص بعينه.
وهذه المسائل العملية التي تتعلق بتحويل المخطوط لمطبوع هي ما نناقشه هنا بالأساس.
2- شيء من التاريخ:
مدخل:
من الضروري توضيح أن تحقيق المخطوط أو النص كان مرتبطا بعملية تطور تقني هي ظهور المطبعة، مما أدى لاتساع فرص الإتاحة وزيادة المعروض، وهذا التطور التقني أثر في المثلث المفاهيمي السالف، وأنتج وظائف جديدة، والأهم أنه زاد في دور المؤلف.
أ- ظهور المطبعة:
ظهور المطبعة الذي وصفه جبريل زايد الشاعر والناقد المكسيكي في كتابه المهم "كتب كثيرة جدا"
شكل ( 8)
بأنه التطور الأهم في تاريخ المعرفة؛ لأنه أدى لزيادة النسخ وانتهاء البعد الفني للنسخة/ المخطوطة، والأهم تقليل قيمتها وإتاحة النص بصورة أيسر.(13)
الكلام عن تأثير الطباعة على العالم وعلى الفكر متصل منذ ستينيات القرن الماضي؛ أي أصدر مارشال ماكلوهن الكندي كتابه المهم "مجرة جوتنبرج".
شكل (9)
لكن لعله من المهم حقا توضيح أن مطبعة جوتنبرج
شكل ( 10)
لم تكن أول تقنية لزيادة النسخ بشكل آلي؛ أي بدون الحاجة للناسخ البشري؛ فقد عرفت الصين في عهد مملكة الهان الشرقية ثم الممالك الثلاث في القرن الثالث الميلادي الطباعة باستخدام القوالب، وتطورت تلك التقنية لديهم عبر مئات السنين. (14)
السؤال هنا: لماذا نعتبر مطبعة جوتنبرج التطور الأهم في تاريخ المعرفة؟
قد تكون الإجابة التي تتبادر إلى الذهن هي أن هذه الرؤية هي جزء من التحيز الغربي أو التحيز لحداثة أطلقتها أوروبا، وهي فكرة مثيرة حقا وجذابة، لكنها في تقديري ليست صحيحة، وهي في جوهرها قبول لفكرة محورية الغرب؛ بمعنى قبول فكرة التاريخ الخطي التطوري الذي يقدم دائما على أنه بديهية.
يأتينا رفض هذه الفكرة من الغرب نفسه، وتحديدا من دافيد جريبر الأنثروبولوجي الشهير في كتابه الأخير مع الأركيولوجي دافيد منجرو "فجر كل شيء"، حيث يعيدان قراءة التاريخ البشري وفقا لمعطيات أمبريقية أركيولوجية وأنثروبولوجية، ويظهران أن ما يقدم إلينا ونتقبله ببساطة على أنه علم وواقع ليس إلا وجهة نظر من ضمن وجهات نظر متعددة.(15).
الحاصل هو أن مطبعة جوتنبرج في تقديري مهمة جدا، ويمثل ظهورها تطورًا ضخمًا في عملية تقنيات نقل المعرفة. ولتوضيح لماذا؟ فلننظر في المطبعة الصينية، وسنجد أن مهمتها الأولى هي إتاحة المكتوب لطبقة الموظفين، حيث تُقصر مهنة الناسخ الفنان على فئة خاصة داخل الدولة.
إن فهم البعد التاريخي أو الزمكاني هنا شديد الأهمية؛ فالدولة في الصين في فترة الممالك الثلاث كانت مقسمة، ولكن المؤسسات هي هي؛ لأن هذا بعد ثقافي أساس في الصين؛ فوظائف الدولة مهمة جدا والبيروقراطية هي أساس الدولة والمطبوعة تساعد على زيادة عدد الموظفين، وهو أمر مطلوب في ظل الانقسام، ولكن قصر المطبوعة على الطبقة المتميزة أيضًا يمنع انتشار المعرفة بين الطبقات الشعبية الساكنة والمشغولة بأعمالها اليومية، وبالتالي كان من الضروري عدم انتشار المطبوع، وتقتصر الإتاحة على فئة المتميزين.
وأما في عصر جوتنبرج، فقد كانت المدن هي الدول، وكان سكان المدن هم أصحاب الشركات، وهو تحديدا ما قدمه جوتنبرج؛ أي عمل شركة أو مصنع كما يتضح من الشكل التالي:
شكل (11) المطبعة بوصفها شركة أو فابريقة
الاختراع ليس مهمًا في ذاته، بل هو مهم في طريقة تنفيذه ومنتجه والوظائف التي أدى إلى ظهورها.
استهدف نشر المطبعة والكتاب المطبوع نشر المعرفة بين سكان المدن، وبالتالي كان منتجه الأول هو الإنجيل لارتباط المعرفة في هذه اللحظة التاريخية بالدين، وتحديدا بالمسيحية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون امتلاك الإنجيل المطبوع وانتشاره قد أدى إلى ثورة مارتن لوثر على الكنيسة، وتعدد الثورات على الكنيسة؛ فكل فرد أصبح بوسعه أن يمتلك الإنجيل؛ أي يصير كنيسة نفسه.
وهذا عكس الإتاحة الدولتية في الصين، فمنتجها الأول كان تعاليم كونفوشيوس التي هي أساس تدريب موظفي الدولة.
مطبعة الصين وسّعت أكثر من وظيفة الناسخ، وأما مطبعة جوتنبرج فقد أوجدت وظيفة عامل الطباعة ومالك المطبعة وناشر الكتب وتاجرها؛ أي أوجدت سلسلة إنتاج وإمداد وتوزيع.
ومن هنا فإن رصد تأثير المطبعة – باعتبارها منتجًا تقنيًا له شكله التنظيمي الخاص - على المجال الثقافي والاجتماعي الإسلامي أمر مهم جدا، ورصد ردود الأفعال المتنوعة على وصول المطبعة لحاضرة الخلافة أمر أساس لفهم طريقة التحقيق وفهم ارتباطها بأصول فكرية محددة، وبالتالي فهم ضرورة تطوير الطريقة أو النظر فيها على الأقل.
من أكثر ردود الأفعال تميزًا (وهو رد فعل متكرر ويعطينا فهما للمجال الثقافي الاجتماعي الزمكاني الإسلامي) القول بالتحريم؛ أي تحريم الطباعة والمطبعة. دعونا نناقش رد الفعل هذا من زواياه المختلفة؛ أولها: لماذا التحريم وليس التمرد كما حدث في أوروبا مثلا؟ إن رؤية الدور الذي يلعبه الدين في المجال الاجتماعي والمعرفي الإسلامي تجعلنا نفهم الفرق، في مقابل الدين الذي يظهر في المجال الأوروبي بمثابة سلطة دائمة متاحة فقط لرجاله، وهي جزء من فكرة التخصص.
الدين في المجال الإسلامي متاح للجميع؛ ولذا يستخدم حتى من قبل السلطة لتسويغ دورها والدفاع عن مؤسساتها. المطبعة تأتي إلى العالم الإسلامي، وتستقر كمنتج، وتستخدم في أدوار كثيرة، ولكن من المهم الدفاع عن مؤسسة النساخ؛ لذا نرى التبريرات مستمرة للدفاع عن الدين ورفض تحوير وتحريف النص المقدس من قبل الكفار.(18 )
هذا التبرير يصبح واضحا حين نستحضر أن من وظائف مؤسسة النسخ - التي تكلمنا عنها - كتابة النص المقدس (القرآن) بوصفه فنا في ذاته.
استقرار المنتج التقني يؤدي لتجاوز هذا التبرير؛ لأن المؤسسة تستقر بشكل مختلف هو ببساطة مزيد من التميز ومزيد من الفنية! أي مزيد من رفع قيمة العامل في المؤسسة؛ أي الناسخ الفنان، وصاحبها؛ ألا وهو الدولة.
وأدت التقنية المستوردة وأسلوب التعامل معها لظهور فكرة "التحقيق"وتحويل النص المخطوط لنص مطبوع؛ أي زيادة الإتاحة.
لكن هناك بعدا مهمًا هنا لابد من رؤيته، وهو أن تأخر هذه العملية نسبيا لم يكن فقط بسبب التحريم، لكن أيضًا لأن تحول التأليف إلى مهنة لم يحدث - بشكل أو بآخر - إلا مع المستشرقين الذين حولوا دراسة المخطوطة وتحقيقها وإتاحتها لمهنة التأليف التي تكلمنا عنها.
ولذا أصبح أسلوب التحقيق هو طريقة المستشرقين التي أثرت في كل من يتعامل مع النص المخطوط بدون النظر في أهمية هذه الطريقة أو جدواها للقارئ.
النص المطبوع هنا هو نص لذة، نص مؤلِّفٍ يستمتع به المتخصص، وليس نصا للجميع؛ لأن المؤلف هنا أصبح مهمًا وظهر في الصورة.
وليس من قبيل الصدفة أن نجد أن من أهم مؤسسات التحقيق في مصر مثلا لجنة التأليف والترجمة والنشر
شكل ( 12)
ومن بين مؤسسيها رئيسها الأول الذي استمر رئيسا لها طوال حياته، وهو الاستاذ أحمد أمين
شكل
( 13)
وهو أيضًا من المحققين العرب الأوائل، ولكن ما يهمنا هنا هو أنه أيضًا من مؤسسي الجامعة المصرية، ومن أوائل من درس فيها.
وهو أمر يستحق النظر والدراسة من زاوية مختلفة؛ فالأستاذ أحمد أمين اشتهر بأعماله التي تبسط التاريخ الثقافي الإسلامي، وأيضًا كان أهم عمل حققه هو مجموعة الأعمال ذات الطبيعة الإشراقية التي تتحدث عن الإنسان العاقل، وهي أعمال تقترب من أعمال روسو وقارنها البعض بروبنسون كروزو.
والحاصل هنا هو أن الأستاذ أحمد أمين في كل الأحوال متبع للحظة الحضارية، ويعيد إنتاجها في إهاب إسلامي؛ فالجامعة هي وسيلة النهوض، والعقل هو قضية الإنسان، والخير والشر وماهية الطبيعة الإنسانية كل هذه الاسئلة التي طرحت نفسها منذ بدء ما يسمى التنوير الأوروبي يعيد أحمد أمين إنتاجها حتى فيما حققه من مخطوطات، وسنعود إلى هذه النقطة فيما بعد.
والتجلي الأهم لهذا التوجه عند أمين هو في اسم الهيئة التي أسهم في إنشائها وترأسها زمنًا؛ أعني (لجنة "التأليف والترجمة والنشر") حيث استعادة دور المؤلف تماما وفي كل صوره بما في ذلك الترجمة.
أما النصوص التي حققتها اللجنة، فسنجد أنها استعارت تماما المنهجية الاستشراقية وأعادت إنتاجها؛ فالمستشرق الذي يحقق النص؛ أي يعد المخطوط للطباعة؛ أي يحول النسخة الثمينة إلى نسخة متاحة لأمثاله، يريد أن يشرح الأسماء الداخلة في النص العربي لأسباب عديدة؛ منها أنه يعتقد أنها استشهادات، ومنها أنه يريد استيضاح من هم هؤلاء الذي يتكلم عنهم النص ومؤلفه.
والأصل أن هذه الأسماء في السياق الإسلامي هي أدلة وليست استشهادًا، إنها علم رجال كل نص يقدمه مؤلفه. العالم المسلم لا يستشهد بمؤلفين مشهورين، إنما يدلل على صدقية نصه بسلسلة زمكانية متوالية (السند).
لهذا يأتي السؤال: ما الداعي لهذه الطريقة في التحقيق؟؟
الإجابة هي: اقتفاء آثار المستشرقين؛ لأنهم النموذج المعرفي الذي يحتذى.
في مقدمة تحقيقه المهم لمخطوطة الغزالي شديدة الأهمية "مشكاة الأنوار"يطرح الدكتور أبو العلا عفيفي – وهو فارس آخر من فرسان النمط الاستشراقي - تساؤلات تتعلق بماهية الرسالة، ويستجلب الأجوبة من مستشرقين تتلمذ عليهم دائما، وبنفس المنهج يفسر مقدمة فصوص الحكم لابن عربي على أنها مشهد تمثيلي مخترع مقتفيا آثار اسيين بالاثيوس الإسباني.
ولست هنا لأشكك في هذا التحقيق أو الإخراج المطبوع للنص، فهو دقيق ومدقق، ولكن أتكلم عن منهجية فهم النص عند المحقق، وفرضه الرؤية الاستشراقية عليه.
فكيف يتأتى لابن عربي افتعال مقابلة مع الرسول، وهو عالم شرعي متبحر يعرف خطورة هذا الأمر؟ بالاثيوس بالطبع يمكنه تفسير النص بهذه الطريقة، لكن كيف لمحقق مسلم أن يظن بالشيخ الأكبر أن يكذب عامدا متعمدا على الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
لقد ارتبط وصول عملية التحقيق للمحيط الإسلامي المكاني بعد دخول المطبعة بتبني الرؤية الغربية والنموذج الحداثي؛ نتيجة عوامل كثيرة ليس هنا مجال ذكرها، ولكن الخلاصة هي أن وصول المطبعة أثر كثيرا في طريقة التحقيق، وهو ما سنناقشه فيما بعد بتفصيل أكثر يتعلق بالتحقيق ذاته.
2- الميكروفيلم:
بالرغم من أن ماكلوهن
شكل (14)
لم يتكلم عن المايكروفيلم، فقد تكلم في كتابه الثاني عن وسائل الاتصال الحديثة وبدايات التلفزيون، وقدم نظريته التي بني عليها علم الاتصال في عنوان الكتاب أي "الوسيط هو الرسالة".
شكل (15)
المايكروفيلم هو الوسيط الجديد الذي حمل رسالة مهمة
شكل (15)
هي: نحتاج مزيد من البيروقراطية، ومزيد من تركيز السلطة لكي تنتج نصا فالسلطة هي التي تسمح بانتاج النصوص اساسا .
والمايكروفيلم هو الجهاز والواسطة التي زادت الإتاحة وأيضًا أصبحت أداة للحفاظ على المخطوط/ التحفة، والأهم أنه جهاز ضخم معقد خلق وظائف جديدة ومؤسسات كاملة لخدمته.
اختراع المايكروفيلم من الاختراعات غير المقدرة، ربما لأنه غير مستخدم في الحياة اليومية للإنسان المديني؛ فهو جهاز متخصص يقوم عليه متخصصون لخدمة تنمية المعرفة؛ ولهذا السبب سنجد أن المايكروفيلم وتفرعاته - مثل المايكرو فيش وتطوراته مثل المايكروفيلم الرقمي الخ - هو جزء من مؤسسة.
من أشهر أماكن خدمة المايكروفيلم في مصر مثلا مؤسسة الأهرام، وله متخصصوه بها. وهنا نتوقف عند خدمة المايكروفيلم الأساس في الإعلام الورقي، ألا وهي الأرشفة وتقديم الأرشيف المطبوع للباحث أو المحرر أو الصحفي الاستقصائي.
وقد تطورت هذه التقنية لخدمة الباحثين في مجال الأكاديميا؛ لتعطي لهم الفرصة للاطلاع السريع على ما يريدون من معلومات، وتطورت في مجال التحقيق لتحول المخطوط الأثر إلى مخطوط مصور محفوظ على شريط سلولويد أو مادة مماثلة.
واختراع المايكروفيلم بالمناسبة لا علاقة له بالسينما فهو سابق عليها.
https://bmiimaging.com/blog/microfilm/history-of-microfilm/
مخترع التصوير المصغر أو المايكروفوتوجرافي هو الإنجليزي جون دانسر (19)
شكل(16)
من القرن التاسع عشر، وكان هدفه تكوين أرشيف سهل الحمل وسهل الاستخدام، فالحاجة فعلا هي أم الاختراع.
ثم طور الفرنسي داجرون المايكروفيلم، وليس من قبيل الصدفة أن يكون المطور فرنسيًا؛ لأهمية حفظ الوثائق والمعاهدات والقوانين؛ لذا نجد الدولتين الأوروبيتين الأكبر قد اهتمتا بهذا الاختراع.
وقد كان إدخال المايكروفيلم إلى الأرشيف العثماني جزءًا أساسًا من تطوير الدواوين في الدولة العثمانية، كما ذكر يلماز اوزتونا في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية"عند كلامه عن إصلاحات السلطان محمود الثاني الهيكلية.(20)
شكل (17)
وهنا لابد من أن نذكر الدور الذي يلعبه الأرشيف العثماني بما يحويه من مخطوطات ووثائق نادرة ومهمة، والدور الذي لعبه المايكروفيلم في إتاحة هذه الوثائق للباحثين من كل البلاد.
http://khazaaen.org/ar/ottoman
https://www.turkpress.co/node/47752
شكل (18)
هذا الارتباط بين المايكروفيلم والدولة أدى لتطور نظرة الباحثين للمخطوطة، وأدى لسهولة إتاحتها، فبعد أن كان تحقيق المخطوطات جزءًا من رؤية قومية أو أيديولوجية أصبح جزءًا من وظيفة أكبر، فمع صعود النزعات الأيديولوجية بمختلف أطيافها، ومع هيمنة الدولة في العديد من الدول العربية أصبح تحقيق المخطوطة وسيلة للصعود الاجتماعي عن طريق الصعود في السلم الأكاديمي، فتحقيق المخطوطة أصبح رسالة ماجيستير أو دكتوراه في ذاتها.
من الضروري استيعاب التأثير الذي أحدثه التطور التقني على عالم المعرفة، وأيضًا على تطور المجتمعات، وأيضًا من الضروري فهم أن التأثير متبادل أو جدلي، فتطور المجتمعات وتطور بنيتها وتركيبتها الاجتماعية وتوجهاتها السياسية تؤدي لتطور علمي، والأهم لتطور مؤثر في أدق الأمور.
وهو الأمر الذي نناقشه في هذه الورقة.
3- دخول الكمبيوتر (الحاسوب):
زيادة الإتاحة وبداية الهروب من سيطرة الدولة وإدراك التمايز بين المخطوطة باعتبارها أثرًا أركيولوجيًا والمخطوطة باعتبارها نصًا معرفيًا:
أ- مرحلة الستينيات:
يؤرخ الباحثون دخول الحاسوب أو الكمبيوتر الضخم - الذي كان يسمى أحيانا "العقل الإلكتروني" - إلى مجال البحث العلمي بستينيات القرن الماضي
شكل (19)
وأيضًا لابد أن يذكروا البطاقات المثقبة
شكل (20)
والدور الذي لعبته هذه التقنية في تطوير البحث العلمي غير منكور.
ولكن لأن الحاسوب كان ضخما وغالي الثمن، فقد كان لابد من وجود مؤسسة ترعاه وتستفيد منه، إلا أن هذه المؤسسة لم تعد هي الدولة، فمن الممكن أن تكون المؤسسة هي الأكاديمية؛ وخاصة في المجال العربي/ الإسلامي، وهكذا زادت المؤسسات التي تمتلكه؛ نتيجة للتطور المجتمعي والسياسي والحاجة لموظفين وباحثين لخدمة الدولة، وأيضًا نتيجة لسيطرة الدولة على كافة المؤسسات بما فيها الأكاديمية.
وقد ظهر التأثير المباشر لوجود الكمبيوتر في هذه المرحلة في صورة ارتفاع القدرة التخزينية كثيرًا، وبالتالي إتاحة المعلومة بغزارة، فالبطاقة المثقبة تحمل كما هائلا من المعلومات بالمقارنة بالكتاب، وهكذا ظهرت مهن كثيرة ترتبط بهذه القدرة الهائلة على التخزين، وأيضًا لكي يتم التحكم في المؤسسات المتعددة التي تمتلك الجهاز السحري الجديد الضروري.
وقد نتج عن ذلك أن أدت التعددية إلى التخفيف من قبضة الدولة، وأدت سهولة التخزين إلى تيسير عملية الإتاحة.
هنا تزداد الحاجة للمخطوطة لعدة أسباب؛ منها:
-التوجه القومي الذي يتكلم عن استعادة التراث وإحيائه.. الخ، فتظهر سلاسل المطبوعات الكثيرة التي تعاد فيها طباعة كتب ومجلدات تراثية؛ مثلا كتاب الشعب في مصر الذي أعاد طباعة كتب تراثية مهمة، وكتاب التحرير بالمثل، وغيرها من السلاسل التي انتشرت في دول عربية كثيرة منطلقة من مصر.
-وأيضًا لحاجة الدولة إلى الاستفادة بشكل مباشر من المؤسسات الأكاديمية للتواصل الثقافي الزماني المطلوب لتأسيس المرحلة سياسيا.
-وكذلك لسهولة الوصول للمخطوطة من خلال المايكروفيلم كما أسلفنا وسهولة استخدامها من قبل الباحثين للترقي والتكسب.
لهذه الأسباب الجامعة بين الذاتي والموضوعي تزداد الحاجة للكتاب المخطوط، ومع ازدياد الحاجة للمخطوط يظهر بوضوح البعد المعرفي لها، وبالتالي يبدأ ظهور وتمايز الفرق بين المخطوطة في بعدها الأثري أو الأركيولوجي والمخطوطة في بعدها المعرفي، وهو التمايز الذي أسلفناه وبدأنا به.
ومع الانتشار المرتبط بالتوسع في استخدام الكمبيوتر للإنتاج والتخزين، تزداد أهمية التحقيق؛ وذلك للحاجة إلى الكتاب، ونتيجة هذا أيضًا أصبح تحقيق المخطوط وسيلة للترقي الجامعي؛ أي في سلك الأكاديمية؛ أي أكثر المؤسسات امتلاكا للجهاز الجديد كما ذكرنا آنفا.
لم يكن ممكنا تخزين صورة المخطوطة في الجهاز التخزيني الجديد؛ نظرا لأنه جهاز انالوج وليس ديجيتال، وهذا هو الشكل الأول للكمبيوتر، ولكن كان من الممكن تخزين الكتاب، ولذا انتشر التحقيق خدمةً للدولة والمؤسسة ووسيلة للترقي الاجتماعي والوظيفي.
ب- الثمانينيات وظهور الحاسب الشخصي أو PC
المعلومة تصبح شخصية وتقل هيمنة المؤسسة:
شهدت الثمانينيات ثورة التحول من الجهاز الضخم المؤسسي إلى الجهاز الشخصي كما في بدايات صخر
شكل (21)
وسينكلير
شكل (22)
و أخيرا الآي بي ام
IBM
شكل (23)
تأثير هذه الشركة العملاقة على المخطوطات أمر جدير بالذكر والإدراك.
الشركة تعمل في مجالات مختلفة وتاريخها طويل يعود لنهاية القرن التاسع عشر وكانت من الشركات الكبرى منذ بداية القرن العشرين عندما تعاملت مع الحكومة الأمريكية
ولكن انجاز الشركة الرئيسي الذي نقلها نقلة كيفية كان في الثمانينات من القرن العشرين الا وهو انجاز الكومبيوتر الشخصي.
تحولت أي بي ام بسبب هذا الانجاز لاحد أهم الشركات العالمية عابرة القارات ونتيجة تحول الكمبيوتر الشخصي لمقتنى أساس لكل الناس اصبحت من الشركات التي تدخل في كل الأعمال بما في ذلك المخطوطات.(21)
المفتاح لفهم هذا هو القدرة على التخزين وظهور امكانيات تخزينية مذهلة بدأت من الكاسيت ومرت بالأسطوانة المرنة ( floppy disc) والاسطوانة المدمجة (compact disc) وكذلك وحدات التخزين الخارجية وانتهت بالتخزين على الكلاود.
(شكل 24)
شكل (25)
شكل (26)
التخزين الضخم والإتاحة السريعة الرخيصة حولت المخطوطة إلى منتج معرفي تماما اقتناء المخطوطة اصبح اقتناء للأثر فقط
المخطوطة متاحة تماما لكل فرد والكمبيوتر الشخصي بكافة أشكاله هو مخزن المخطوطات الرئيسي.
ومن ثم كانت النقلة التقنية الجبارة في التسعينات وهي ظهور الشبكة العنكبوتية واختراع المايكروتشيبس أو الشرائح الدقيقة.
كان أثر الكمبيوتر رهيبا فقد انتهت الحاجة للوظائف المساعدة وانتفت الحاجة للمؤسسات الضخمة وصار الموضوع متاحا للجميع
ولكن النقلة التقنية الجبارة التي ذكرناها ادت للقضاء تماما على كل هذا وبالتالي انهت دور الدولة في علاقتها بالمخطوطة كمعرفة.
ج- التسعينيات والتحول الرقمي From Analog to Digital
تطوير اختراع المايكروتشيب أو الشريحة الدقيقة كان من الأهمية بمكان للوصول إلى ازدياد سعة التخزين وسرعة الاستجابة وأيضًا كان من اسس الوصول إلى محول الشكلي إلى رقمي
Analog to digital converter
https://www.electronics-tutorials.ws/combination/analogue-to-digital-converter.html
هذا الاختراع أدى إلى أنه لم تعد قراءة الصور مشكلة ومن ثم سهل التعامل مع المخطوط في ذاته
وأدت ثورة الشرائح الدقيقة microchips
https://www.meteca.org/the-history-of-the-first-microchip/
أيضًا إلى ازدياد القدرة التخزينية ومن ثم ازدادت امكانية استعادة وتداول المعلومة المتاحة.
بعبارة تتعلق بنصنا هذا : المخطوطة عندما تتحول إلى معرفة فقط. هذا التحول الذي حدث في التسعينيات طور الكومبيوتر الشخصي بشكل مذهل وطور امكانيات التخزين من بضعة ميجا بايت إلى تيرا بايت أي ألف ألف ألف ميجا بايت ومن ثم تطورت البرمجيات المتاحة وتطور استخدامها وصغر حجم يس الكمبيوتر وتطور إلى ان ظهر الموبايل أو الهاتف المحمول بإمكانيات تكاد تماثل امكانيات الكمبيوتر المتنقل أو الشخصي المنزلي.(22)
كل هذه التطورات الغت وظائف والغت مؤسسات وبالتبعية الغت الارتباط بالمؤسسات.
من الوظائف التي انتهت سنجد الكاتب على الآلة الكاتبة حيث صارت الكتابة على الكمبيوتر ضرورة للجميع وأصبح هذا التخصص غير موجود. لم يتطور كاتب الآلة الكاتبة إلى فنان كتطور الناسخ لأن الأصل في وظيفته الآلة وليس الإنسان.
4- الإنترنت والإتاحة الكاملة:
لكن الاختراع الأهم والتطور التقني المفصلي في تقديري هو الإنترنت، ولفهم كيف أدت الإنترنت لإزالة الحواجز وإلغاء الدور المؤسسي وإتمام التمييز بين المخطوطة باعتبارها أثرًا والمخطوطة باعتبارها معرفة نتساءل: ما الذي يدعونا لدعم أي مقال بالصور؟
نحن نتكلم هنا عن أهمية الصور مع المقال لمحركات البحث، فالصورة تعمل بمثابة هامش يصلح استخدامه للبحث عن الأصل المقتبس منه أو المرجع مع إعطاء لمحة عن ماهية وتاريخ الصورة.
في عالم التحقيق وعالم المخطوطة تصبح كل الصور هوامش وذات معنى.
يصبح المخطوط نصًا لغويًا بصريًا كما أشرت في "مفاهيم الجمال رؤية إسلامية"
شكل (27)
هنا تتطور العملية، وتتاح المخطوطات للجميع من خلال الإنترنت، فيظهر التبادل، وتظهر المكتبات الافتراضية، ويظهر استخدام العملات على الشبكة؛ أي تحويل الافتراضي أي النسخة إلى واقعي مادي أي عملة، ويؤدي هذا إلى تعديل النظرة لوظيفة الناشر والمؤلف.
بل تظهر وسائط تواصل هائلة تضم محيطًا كاملًا من البشر بشخصيات افتراضية وحقيقية، وتتحول لشبكة نقل معلومات مذهلة لم تشهد البشرية عبر تاريخها مثيلا لها في سرعة انتقال المعلومة ولا في قدرات التخزين المذهلة.
المؤلف أصبح هو الناشر، وهو القارئ، وطبعا أثر هذا في النص، فتجاوزنا فكرة لذة النص المكتوب، وحتى متعة النص المقروء؛ نحن أمام نص سمعي بصري متغير بشكل دائم، ويتعامل خارج نطاق كل السيطرات الممكنة... فما تأثير هذا على المخطوطة وعلى عملية التحقيق وعلى تصورنا لمستقبل هذه العملية؟
نود قبل الإجابة على هذه التساؤلات أن نشير إلى حدوث تغير في الاهتمام بنوعية المخطوط مع تغير نوعية القارئ/ المستهلك؛ فمع الإتاحة وسهولة الوصول لكل أنواع المخطوطات، ظهر مستهلك جديد لن يهتم بالعلوم الشرعية، ولا يهتم بالشعر أو بالتصوف أو باللغويات أو بتاريخ العلوم عند العرب، بل يهتم أساسا بالاستفادة من المخطوط بما فيه من معرفة؛ وخصوصا ما يعتبره هو مهمًا ومفيدًا؛ لذا سنلاحظ ازدياد مواقع وصفحات الإنترنت (أي ازدياد الإتاحة) التي تتكلم عن مخطوطات السحر والمخلوقات الأخرى والجن.
ولا يحتاج هذا المستهلك إلى تحقيق، ولكن يحتاج إلى نص وظيفي يستخدم أيضًا، على العكس من الدور التاريخي للمخطوط الأثر الذي كان دائما سابقا على المخطوط المعرفي. حاليا مع الاستهلاك المتزايد لهذه النوعية سنجد المخطوط المعرفة يزداد أهمية من جهة القيمة السوقية، بل ويسبق المخطوط الأثر حيث إن معرفة هذا النوع تغري هذه النوعية من المستهلكين بالبحث عن المخطوط الأثري.
3- التحقيق ومشاكله
رؤية مغايرة
بعد هذا الاستعراض التاريخي المعرفي لتأثير التطور التقني على المخطوطات وعلى أهميتها وطريقة التعامل معها نصل إلى مجموعة مشاكل صادفناها اثناء هذا التجوال التاريخي وأيضًا صادفتنا عمليا اثناء التعامل مع مخطوطات محققة من مختلف الانواع.
بداية يمكن تجميع المشاكل التي واجهتنا والتي صادفناها عند التحقيق في ثلاث مجموعات أساسية
المجموعة الأولى: الارتباط المعرفي
قدم الدكتور ابو العلا عفيفي اسهامات لا تنسى في تحقيق أعمال ابن عربي والغزالي وشخصيا ارى ان تحقيقه كنص خالص دون حواشي ولا تعليقات من ادق ما يمكن.
المشكلة دائما تكمن في حواشي وهوامش وتعليقات ومقدمات الدكتور عفيفي
شكل (28)
نعرض هنا مثالين
المثال الأول: مقدمة تحقيقه لكتاب مشكاة الأنوار للغزالي(23):
فالدكتور عفيفي يجتهد كثيرا ليبرز آراء المستشرقين في النص، وكونه نصا إشراقيا غنوصيًا، بالرغم من كونه أبعد ما يكون عن ذلك. وفي اجتهاده المرتبط بطريقة التفكير الحداثي يغفل عفيفي عدة نقاط مهمة؛ أولها أن النص رد على سؤال؛ أي هو نص وظيفي للقارئ، والغزالي غير معني بتفسير آيات النور بالدرجة الأولى، وإنما هو معني أساسا - ومن واقع نصه الذي حققه عفيفي - بالرد على التساؤل؛ وخاصة أن السؤال اقترن بالحديث عن الحجب الإلهية. وهذا التساؤل جزء لا يتجزأ من رؤية ميتافيزيقية للكون نراها في أكثر من نص، بصرف النظر عن مؤلفه؛ مثلا في "الهفت الشريف"للمفضل الضبي، وكذلك في نص ابن عربي "رسالة الأنوار"، وكلام الغزالي نفسه عن الحجب، وخاصة في مرحلة النضج - كما أشار الدكتور عفيفي - يعني أن الغزالي يتكلم عن حجب حقيقية وعن النور بوصفه نورا حقيقيا كما أكد أكثر من مرة في النص ذاته.
و ثاني هذه النقاط التي يغفلها الدكتور عفيفي هي ان الغزالي حرفيا معاد للغنوصية ويرفض وحدة الوجود فكيف يفهم المستشرقون الغزالي افضل من فهمه لنفسه؟
ويسوق الدكتور عفيفي في ارتباطه بالمستشرقين آراء وات وديكنسون وغيرهما على أنها القول الفصل في هذه المسألة وغيرها، وهي مشكلة حقيقية تتكرر كثيرا في تحقيقات القادمين من أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى.
المثال الثاني: هو تحقيق الدكتور عفيفي لنص "فصوص الحكم"المنسوب للشيخ الأكبر، حيث يجتهد أيضًا في المقدمة لإثبات أن النص غنوصي، ويتضمن رؤية الشيخ الأكبر في وحدة الوجود، وتلك هي النظرية الأوروبية الاستشراقية لمعظم الباحثين في ابن عربي، والتي تغفل ثراء نصوص ابن عربي وتنوعها، وتطرح رؤية للشارح وليس للنص تغفل تماما ارتباط نصوص ابن عربي بعضها ببعض. و تغفل رفض ابن عربي التام لفكرة الحلول ووحدة الوجود كما ذكر في اكثر من موضع من مجمل مؤلفاته.
الدكتور عفيفي يجتهد لاثبات امر يرفضه صاحبه رفضا باتا لان الدكتور عفيفي منصاع لرأي استاذه الانجليزي الاستاذ نيكلسون (كماو صفه) الذي يرى هذا .
من النماذج الأخرى للارتباط المعرفي وتأثيره على تحقيق النص، سيصادفنا الأستاذ أحمد أمين أيضًا، فقد حقق وعرض ثلاثة نصوص لابن طفيل وابن سينا والسهروردي؛ كلها تتمحور حول قصة حي بن يقظان أو الإنسان العاقل، وهي فكرة قديمة طرحها الفلاسفة وتبناها كل من ارتبط بالفكر الإشراقي الأرسطي، وأعيد لها الاعتبار مع اميل روسو، وحاول الأستاذ أمين أن يقدم لها أصلا عربيا؛ ليدعي سبقا في سباق متخيل في ذهنية الحداثيين العرب، وهنا يتجلى الارتباط المعرفي بالحداثة الغربية في مقدمة الأستاذ أمين التي يحتفي فيها بالنصوص الثلاثة وبشارحيها من المستشرقين.
يتبقى لنا نموذج أخير هو الأستاذ أحمد حسن بسج شارح ديوان ابن عربي حيث نجده يتكلم في شرحه ومقدمته ملتزما بنفس الرؤية الغربية الاستشراقية التي ترى ابن عربي فيلسوف الحب وصاحب رؤية حلولية تؤمن بوحدة الوجود.
وفي مقابل هؤلاء، فإن من أهم النماذج التي تقدم ارتباطا معرفيا مغايرا بالتحقيق، سنجد العلامة الأستاذ عبد السلام هارون وهو هنا يمثل مدرسة دار العلوم حيث الارتباط المعرفي من الجانب الآخر، ويتجلى هذا في اختياراته للنصوص التي حققها ودقته الشديدة وغزارة إنتاجه.
المجموعة الثانية: عدم الدراية
في تحقيقه لنص ابن سبعين الأم "بد العارف"
شكل (29)
شرح الدكتور جورج كتورة
شكل (30)
في مقدمة التحقيق معنى كلمة بد وأفاض(25 )، وذكر العلماء الذين حاولوا شرح الكلمة؛ مثل التفتازاني، وأيضًا بعض المستشرقين مثل لاتور، حتى ذكر رأي من قال إنها تحريف ليد!
ويخلص كتورة من هذا الجدل إلى أن البد هو الإله أو منزل الإله، انطلاقا من أحد معاني كلمة "بد"العربية وهو الصنم أو بيت الصنم، وهو المعنى الذي أدى بالبادسي إلى استنكار العنوان، وهذا ليس لجهل البادسي بالمعنى الذي عناه ابن سبعين، ولكن منعا للخلط، وهو ما ذكره البادسي في رسائله وأدى إلى طلبه حرق الكتاب؛ وخاصة لاختلافه مع ابن سبعين في الرؤية العامة التي يتمحور حولها كتابه التي هي العنوان، فالبد في اللغة صورة المرآة أو النظير المخالف، فابن سبعين يرى ان العارف لابد أن يظهر تجليات الأسماء الحسنى أو التجليات الإلهية في شخصه على نسق هو صورة النظير المناقض لأسماء الجلال، وهذا الرأي مشابه لرأي الشيخ الأكبر وإن خالفه في التفاصيل، وهو ما أوضحناه في كتاب "التصوف الأندلسي والفرق بين التصوف الجدلي والتصوف الإشراقي الأرسطي"الذي ينتمي لمدرسته البادسي.
في حالة جورج كتورة هناك ارتباط معرفي بالتوجه لإلصاق تهمة الحلول ووحدة الوجود بابن سبعين، وهي الرؤية الاستشراقية، وبسبب هذا الارتباط المعرفي لم يحاول الدكتور كتورة البحث في المعنى، ونجد هذا المعنى عند ابن منظور.
كذلك من أمثلة عدم الدراية بموضوع التحقيق ما قام به الأستاذ أحمد أمين في تحقيق نص "الغربة الغربية"للسهروردي، وضمنه كتاب حي بن يقظان كما ذكرنا آنفا، فإنه حققه - كما ذكر في المقدمة الضافية المطولة للتحقيق – على ثلاث صياغات للقصة الفلسفية، وبصرف النظر عن وجود النسخة الرابعة عند ابن النفيس - كما ذكر يوسف زيدان - فإن الأستاذ أحمد أمين في تحقيقه كتب: "واعتصم بحبلنا الذي هو جوهر الفلك القدسي المستوي" (26) ، والصواب كما في المخطوطات المتاحة للنص، بما في ذلك المخطوطة الفارسية، سنجد الكلمة الصواب هي "جوزهر"، وهذا أقرب لأسلوب السهروردي المقتول على الزندقة، وخاصة البعد الفارسي عنده، حيث جوزهر كلمة فارسية تعربت، وتعني نقطة على سطح القمر، فالقمر هو الجرم السماوي الذي يحمل معنى عظيمًا عند أهل الإشراق، ومنهم السهروردي، ويشكل في منظومة السبع الشداد العنصر الأساس كما ذكر الطباطبائي في كتابه السبع الشداد في علم الفلك.
لم يدرك الأستاذ أحمد أمين هذا، ولم يدرك الأبعاد المتعددة للنص ولاستخدام الكلمات بشكل وظيفي. وقد أشار إلى هذا يوسف زيدان في تحقيقه للنص الأكثر دقة بما لا يقاس بعمل سلفه.
المثال الأخير في سياق عدم الدراية التي تؤدي لنص مختلف عند التحقيق سنجده عند اسين بالاثيوس
شكل (31)
في قراءته لأحداث كثيرة في حياة ابن عربي ضمنها ترجمته الدقيقة (والمختلفة عن الرؤية الإسلامية)، نجده يحاول تفسير البعد الميتافيزيقي في الحدث بشكل مقبول غربيا، كأن يقول مثلا: إن الحدث الذي ذكره ابن عربي في تبريره لتأليف كتابه "فصوص الحكم"هو أنه مشهد تمثيلي.
عدم الدراية هنا يأتي من كون القس الكاثوليكي لا يرى ابن عربي إلا مؤلفًا وشخصًا واسع الاطلاع، وبالتالي عندما يتكلم عن فعل تمثيلي، فهو يلمح لكون ابن عربي مطلعًا على البيوتيقا مثلا، ولكنه لا يدرك أن الفعل التمثيلي هو غير حقيقي، وبالتالي يدخل في الكذب، والكذب في القول بلقاء الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو كذب على الرسول بشكل عمدي؛ أي أن فاعله سيتبوأ مقعده من النار كما يعلم ابن عربي جيدًا.
عدم الدراية هنا مشوب بالتحيز المعرفي، وهو ما نناقشه فيما يلي.
المجموعة الثالثة: التحيز
لابد هنا أن نفرق بين مفهومي التحيز والارتباط؛ فالتحيز المعرفي يشابه الارتباط المعرفي، لكنه يكون عن عمد؛ أي أن الباحث المتحيز قد نما وشب وترعرع في المناخ المعرفي الزمكاني المتحيز له، ولا يدعي غير ذلك، وهنا سنجد نوعًا من القصدية، بينما الارتباط المعرفي هو نوع من التحيز الكامن قد يأخذ أحيانا شكل الرفض أو الرغبة في الاستقلال والابتعاد عن المجال المتحيز له.
من أبرز أمثلة التحيز المعرفي في عملية التحقيق: ما ذكره باحث كندي من أصل إيراني عند تعليقه على تحقيق نصوص ابن عربي في إيران، وكيف يرتبط هذا بتوجه سياسي عام، فيُقدَّم ابن عربي على أنه مفكر عرفاني عندما تريد الدولة أو المؤسسة الدينية التقارب مع دول سنية ذات توجه صوفي. وفي معظم تحقيقات أعمال ابن عربي سنجد هذا التحيز.
تحقيقات أعمال ابن عربي في الغرب، حتى على يد أساطين المحققين هناك مثل دنيس جريل وجيمس جريفيث، تتمحور حول فكرة أن ابن عربي صاحب دين الحب ونصوصه هي نصوص التصوف الفلسفي، وهو مصطلح عجيب يستحق التفكر والتخلص منه، وسنجد أيضًا إصرارًا عجيبًا على إلصاق الفكر الحلولي والقائل بوحدة الوجود بابن عربي، وهو كلام لا علاقة له لا بدراسة فكر ابن عربي ولا بدراسة سيرة ابن عربي ولا بأعمال ابن عربي أصلا!
وقد أظهر الأستاذ محمود الغراب هذا بكل وضوح في أعماله عن ابن عربي، وفي تحقيقه المختلف لنصوص ابن عربي، وكمثال رفض الأستاذ الغراب نسبة كامل نص الفصوص لابن عربي، وناقش أن الكثير من الفصوص هي من وضع تلاميذ الشيخ الأكبر وأهمهم الصدر القونوي.
ومثال آخر على التحيز المعرفي في التحقيق: الإصرار على القول بغنوصية نص الهفت الشريف أو الهفت والأظلة، وهو نص جمعه المفضل الضبي بن عمر من كلام الإمام جعفر بن محمد الصادق.
عدم إدراك المحيط الزمكاني للنص، وعدم إدراك الرؤية الكلية المقدمة في النص يجعل محقق النص ودارسه يفسره في إطار رؤية مغايرة تماما.
تمثل هذه المجموعات الثلاث مشاكل أساسية في التحقيق صادفناها، ونرى أن رؤية النصوص المقدمة داخل التحقيق؛ كل على حدة، وقبول النص الأساس بصرف النظر عن تحيزات وارتباطات وعدم دراية المحقق، يؤدي لتجاوز هذه المشكلات؛ خاصة أن كل شيء متاح ومن السهولة بمكان الوصول لأي نص.
4- خاتمة:
أفكار للمناقشة بصدد التعامل مع المخطوطة في عصر الإنترنت والانفجار المعلوماتي
مقترحات عملية:
أ-كل نسخة نص يمكن تحقيقه . في تصوري انه إذا كان من الضروري تحويل المخطوط الى نص مكتوب بالآلة فلا داعي لفكرة النسخ و المقارنة انما يحول النص الى نص مكتوب بالآلة باي طريقة متاحة على الحاسوب (وورد – بي دي اف – كيندل الخ ....و يوضع في ملف و يتاح للتنزيل سواء بجعل او مجانا فكل نسخة من مخطوط هي نص في ذاته يستحق ان يتاح للباحثين.
ب-كل تحقيق له تحيزاته وابعاده سواء معرفيا أو أيدلوجيا وهذا يتجلى في كلمة استاذنا وشيخنا الدكتور حسن الشافعي بخصوص ان تحقيقات و آراء المستشرقين ( و بدون استثناء هي آراء تصدر عن ايديولوجية ترى ان الجنوب او الشرق هو صورة مرآة للغرب و بالتالي هي اراء لا تستحق الاحتفاء بها)
كمثال معظم المستشرقين القدماء منهم و المحدثين يتكلمون عن الشيخ الاكبر باعتباره من مؤسسي وحدة الوجود و من القائلين بالحلول و هذا امر رفضه الكثيرون من العلماء العرب و المسلمين على سبيل المثال السيوطي و الشعراني (27)
في تقديري ان المؤلف الحداثي الغربي حتى و ان اسلم يتبع تحيزاته و هو قد غير من دينه الا انه مايزال يبحث عن اساسيات في الدين الذي انتقل اليه و من ثم التصوف كرؤية للكون يصل به الى وحدة الوجود وهي رؤية كونية موجودة في ثقافته و اقرب اليه . حين يحاول تأكيدها في النص المتاح هو يؤكد لنفسه وحدة الافكار و الامر ليس كذلك. و تلك نقاط اشار اليها العلامة محمود محمد شاكر في كتابه المهم رسالة في الطريق الى ثقافتنا.
و كما اشرنا من قبل ان معظم التحيزات و الاتباطات المعرفية تؤدي لاراء محددة . الرأي هنا ليس رفضها ولكن اتاحتها مع التوضيح . لان صراع الافكار يؤدي الى تطور معرفي و فكرة الاتاحة هنا تؤدي بنا الى السعي الدائم للتعاون بين الباحثين من مختلف الخلفيات المعرفية و خاصة في مجالات اشكالية تتطلب اراء متعددة و الاهم هو قبول الافكار المختلفة لان هذا سيؤدي الى اتاحة اكبر سواء بمقابل مادي او بدون مقابل وفقا لرؤية المؤسسة .
ج- التحقيق أصبح متاحا وبالتالي يمكن القول بأن التخصص ليس مطلوبا كبعد معرفي و لكنه مطلوب كبعد اثري و هذا امر مهم جدا فالبعد المعرفي يزيد من قيمة البعد الاثري و ليس العكس . بمعنى ان مخطوط وحيد للطائف المنن لابن عطاء الله بخط المؤلف ستزداد قيمته مع ازدياد الاهتمام بنص ابن عطاء و اهتمام الباحثين به من جهة معرفية . لكن مخطوط وحيد ونادر لنص غير مشهور لمؤلف غير معروف سيظل قيمة مادية و اثرية بصرف النظر عن قيمته المعرفية .
د-الغرض من التحقيق إنتاج نص مقروء - وفقا لبارت - وإتاحة نصوص مختلفة للمستخدم أي المقارنة و بالتالي لا يصح اعتبار التحقيق بحثا علميا او معرفيا وخصوصا مع منهجية الاتاحة العامة التي اشرنا اليها فما هي الاضافات العلمية التي سيضيفها تحقيق نص قد تمت قراءته عدة مرات و متاح بكل اشكاله؟؟؟
الغرض هنا التوقف عن الكسل العلمي و المعرفي و ابقاء المخطوطة كقيمة اثرية فمن اراد تحقيق مخطوطة فليفعل هذا لزيادة قيمتها و لزيادة الاهتمام الاثري بمؤلفها و يبحث عن مقارنة معرفية تجعل الباحث يقبل عليها. الاهم ان المؤسسة التي تتبنى فكرة نشر النص المخطوط يمكنها مساعدة الباحثين من خلال عملية التلخيص اي اتاحة النص بلغة بسيطة وفي عدد كلمات محدد و ايضا ترجمة الملخص للغات الاخرى بحيث يتاح شكل من اشكال ادراك النص للباحث ان اراد الرجوع اليه و لم يكن متمكنا من اللغة الاصلية او غير متاح له وقت كاف لدراسة وقراءة النص الاصلي بمختلف اشكاله كما ذكرنا.
ه-النسخة في ذاتها كمخطوط يمكن عرضها لانها نص و دراستها تستحق البحث في ذاتها و الاتاحة موجودة ( البحث بالصور ) و قبول بحث اهمية الناسخ و المؤلف و المالك بنفس الاهمية يتيح التعامل مع النص / المخطوط بشكل ارحب .
و اتمنى ان اكون قد عرضت كافة الافكار التي طرحت في هذه الورقة بشكل ميسر بحيث يمكن الاستفادة منها و زيادة الاتاحة الغاء التحكم فهذا هو الغرض الاساس للتقدم التقني.
و الله اعلم.