Quantcast
Channel: ossama-elkaffash-articles
Viewing all articles
Browse latest Browse all 80

من اقوال علماء التصوف في القلب

$
0
0

 أقوال علماء التصوف في القلب:

بطبيعة الحال يبرز القلب في الطريق الصوفي بروزًا خاصًا، بحيث ينزلونه منزلة القائد للكينونة البشرية برمتها، إلا أنه لما كان أمر القلب يتسم عمومًا بالغموض فقد سلك الشيوخ في الحديث عنه مسلكين:

الأول: محاولة تقديم تصور لوظائف القلب وأحواله من خلال ربط النصوص الشرعية التي تتكلم عنه بعضها ببعض.

المسلك الثاني: تسجيل نتيجة الخبرة التي يستخلصها السالك في هذا الجانب من تجربته الروحية.

وقد لا نظفر عند كثير من المشايخ بتصور مفصَّل لأمر القلب، إلا أن لأكثرهم شذرات تحكي وقفة مع آية أو حديث عن القلب، أو تقدم لمحة من خاطر لمع في النفس عقب عمل من الأعمال أو آخر يتعلق بالقلب.

وأما من ناحية الأسلوب الذي اختاره الصوفية للعبارة عن معانيهم حول القلب، فقد غلب عليهم فيه المجاز، وحين تكلموا على الحقيقة صار حديثهم أقرب إلى علم التشريح.

واللجوء إلى المجاز للتعبير عما لا يبلغه التعبير بالحقيقة، هو إحدى الحيل الإنسانية لبيان ما لا تتسع معاجم اللغة للتعبير عنه، وقد كتب الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله كتابه "اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود"، وفيه قسّم الصور المجازية ثلاثة أقسام: صور مجازية إدراكية، وصور مجازية آلية، وصور مجازية عضوية، والثانية "تفترض أن الكون مثل الآلة التي تدور بلا هدف ولا غاية، والصور المجازية العضوية (العالم كنبات أو حيوان).. ترى العالم باعتباره كلا متماسكًا مصمتًا لا تتخلله مسافات أو ثغرات، فهو مكتف بذاته ومرجعية ذاته"( )، وأما الصور المجازية الإدراكية، فتعني اللجوء إلى المجاز لبيان المفاهيم حين لا يكفي التعبير عنها بالحقيقة.

على أي حال، فقد دفعت كثرة النصوص القرآنية المتعلقة بالقلب بعض كبار الشيوخ إلى محاولة تحديد معالم الطريق الذي يسلكه القلب في سفره إلى الله من خلالها، ومن هؤلاء أبو الحسين النوري الذي اختار "مقامات القلوب"عنوانًا لإحدى رسائله، ولا يخفى مقصوده به، وهو أن القلب هو الذي ينزل منازل الطاعة أصلا، أو هو مستقر الطاعة ذاتها، من التوبة والصبر والزهد والورع والتوكل وغيرها، وهو الذي يعبر من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال، وإن كانت تلزم الجسد مع ذلك أمور فإنها تتم بإشراف القلب.

شبّه النوري مقامات وأحوال التدين التي يمر بها السالك بالنبات، وشبه القلب – الذي هو محلها - بالبيت الذي أرسل الله عليه ريحًا طيبة طهرته من الشرك والشك والنفاق، وأنزل عليه المطر، فــــ"أنبت فيه ألوانًا من النبات مثل: اليقين، والتوكل، والإخلاص، والخوف، والرجاء، والمحبة، ووضع في صدر ذلك البيت سريرًا من التوحيد، وبسط على السرير بساطًا من الرضاء، ثم غرس شجرة المحبة والمعرفة مقابل البيت؛ أصلها في القلب المؤمن، وفرعها في السماء تحت العرش، ووضع على يمينه سريرًا، وعن شماله متكئًا من شرائعه، وفتح بابًا من بستان رحمته، وزرع فيه من ألوان الرياحين من تسبيح وتحميد وتمجيد وذكر. ثم أجرى في نهر الفضل ماء من بحر الهدى يسقي ذلك النبات. ثم علق قنديلا من قناديل وصله من النبات الأعلى، وأسرج بدهن الذُّكاء، وأضاء نور سراجه نور التقوى، فبابه يمنع الردى، ثم أمسك مفتاحه، ولم يوكل عليه أحدًا من خلقه... ثم قال المولى جل جلاله: هذا خزانتي في أرض ؟؟؟ ومعدن نظري ومسكن توحيدي".( )

وتبدو هذه الصورة مركبة جدًا كما يظهر، ولا يمكن تحليلها بدقة إلا برسمها بريشة فنان رقيق ذي حس عميق بالمعاني والألوان والظلال، فالقلب (وتحديدًا قلب المؤمن) في هذه اللوحة هو "بيت"أو "بيت الله"( ) الذي طهره من ثلاثي الهلاك: الكفر والنفاق والشك، وتلك هي الخطوة الأولى في مسيرة المؤمن التي تفتح أمامه المدى في طريق تنتهي حياته قبل الانتهاء منه، أو قل إنه ينتهي عند آخر ما تصل إليه طاقته بالموت ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ یَأۡتِیَكَ ٱلۡیَقِینُ﴾ [الحجر: 99]. 

ولأن هذا البيت غير أي بيت آخر، فقد ظهر وكأنه حديقة معنوية لها ألوان تُرى، وروائح تُشَم، لا كأي ألوان ولا كأي روائح. أرسل الله إليه الغيث، فنبت فيه من النبات أينعُه وأجمله وأذكاه، من اليقين والتوكل والإخلاص والخوف والرجاء والمحبة وغيرها.

ولما كان هذا البيت لراحة العبد الحقيقية، لا لتعبه وهو يعدو لاهثًا خلف الدنيا، فقد نصب الخالق لعبده في صدر البيت (=القلب) سريرًا من التوحيد قد فُرش بفراش من الرضا. والرضا والتوحيد هما أكبر راحة للمؤمن في هذه الحياة، وفي الآخرة كذلك، فالتوحيد به يوحد العبد مراده، فلا يشغله إلا مراده (الله)، وأما الرضا فبه يوقن العبد أن مراد الله خير له من مراده لنفسه، فيسير في سكك الحياة عاملا لله مطمئن النفس لما تجري به الأقدار. وكون هذا السرير في صدر البيت يوحي بأنه الشرط المقدم لنيل كل درجة فيما بعد؛ إذ إن العبد قد تغريه نفسه بأوهام الفناء والوحدة، فيعلم من البداية إلى النهاية أن العبد عبد والرب رب وبينهما من الفروق ما لا يمكن عبوره.

وأما شجرة المحبة والمعرفة، فهي تمثيل لحال يهبه الله عبده بعد مجاهدات ورياضات، وقد غُرست هذه الشجرة خارج البيت (= القلب)؛ إشارة إلى أنها في حدود الصدر الذي يضم القلب، وأنها هبة وليست كسبًا. وهي شجرة طيبة تمتد جذورها في أعماق القلب، وتعلو فروعها حتى تبلغ العرش. وتذكّرنا بحالها هذه بـ "الكلمة الطيبة"و"الشجرة الطيبة"في القرآن الكريم التي قال الله فيها: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا كَلِمَةࣰ طَیِّبَةࣰ كَشَجَرَةࣲ طَیِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتࣱ وَفَرۡعُهَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ. تُؤۡتِیۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِینِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ...﴾ [إبراهيم: 24- 25].

ثم جعل على يمين القلب (=البيت) سريرًا وعن شماله مستندًا من الشريعة يستند إليه، أما السرير فهو موضع الراحة لدى الخروج من البيت، فسرير في داخله وسرير من خارجه، وكأن سرير الخارج هذا هو ما لابد للعبد منه من ضروريات الحياة، وهو نوع آخر من الراحة والرحمة الإلهية بعباده. وأما متكأ الشريعة، فلا يخفى مكانه ومعناه؛ لأنه المستند الذي على أساسه يأخذ، وعلى أساسه يعطي، لكن هل هذا المتكأ يتعلق فقط بما هو خارج القلب دون ما هو داخله، أو يعمهما؟ يبدو من هذا التصوير أنه خاص بالحركة خارج القلب، وأما ما يصون قلب العبد من الداخل من الانحراف فهو التوحيد؛ لأنه مقياس الشريعة الأكبر ومعيار كل فعل وقول وحركة وسكنة. كما يشير متكأ الشريعة إلى أن العبد يظل ملزمًا بالتكليف، ولا يسقط عنه أبدًا.

وأما بستان الرحمة الذي فُتِح على القلب باب منه، فهو الموضع الذي يحوي تلك الرياحين التي لا يطمئن القلب إلا بالقطف منها، وملء الصدر من عبيرها، "من تسبيح وتحميد وتمجيد وذكر"، وكأن هذا البستان قد توفر فيه كل شيء جميل، ولم يكن ينقصه إلا زقزقة العصافير، وأغاريد البلابل، وتحركات الفراشات والنحلات من هنا وهناك وإلى هنا وإلى هناك، وهي وظيفة المؤمن الذاكر الممجّد المسبح الحامد لله تعالى، فهو عصفور هذا البستان ونحلته وفراشته، قال النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ممَّا تذكرونَ من جلالِ اللهِ: التسبيحَ والتهليلَ والتحميدَ، ينعطِفْنَ حولَ العرشِ، لهنَّ دويٌّ كدويِّ النحلِ، تُذكِّرُ بصاحبِها، أمَا يُحبُّ أحدُكم أن يكونَ له - أو لا يزالَ له - من يُذكرُ به؟!".( )



Viewing all articles
Browse latest Browse all 80