عن السينما الايرانية والعالمية و الاسلامية فكرة الافراط في النعوت
نشرت هذه المقالة على موقع اسلام اون لاين و جريدة القاهرة منذ اكثر من 15 عاما ولا تزال الاطروحات المطروحة بها مفيدة لمن يريد الاستفادة وخاصة فيما يتعلق بنعت الشيء دون تبصر و دون تحديد.
والله اعلم
فازت المخرجة الإيرانية الشابة "سميرة مخلمباف"بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في أعرق وأهم مهرجانات السينما في العالم، مهرجان "كان"الفرنسي، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تفوز فيها سميرة في كان، ولم تكن تلك المرة الأولى أيضا في تاريخ السينما الإيرانية فقد تكرر فوز هذه السينما بـ"سعفات ذهبية" (جائزة مهرجان كان) و"دببة من أصناف مختلفة" (جائزة مهرجان برلين) و"أسود متنوعة" (جائزة مهرجان فينيسيا).. ناهيك عن الفوز في القاهرة وموسكو وغيرها من المهرجانات السينمائية، هذا المشهد الذي تكرر كثيرا منذ بداية التسعينيات في القرن الماضي استدعى مشاهد أخرى، وأثار تساؤلات كثيرة كلها تؤكد أن ثمة أغاليط بل وخرافات حول السينما الإيرانية تحتاج للتفنيد أو المناقشة على الأقل.
بين الإسلامية والعالمية!
أول مشهد أتى إلى ذهني كان منذ بضع سنين في مهرجان القاهرة الدولي لسينما الطفل، وكنا مجموعة من الأصدقاء نحضر ندوة إعلان نتائج المهرجان ولم يفز الفيلم الإيراني المشارك بالجائزة، وهنا قفز أحد الأشخاص صارخا: "هذا تحيز ضد السينما الإيرانية لأنها إسلامية"!
المشهد الثاني من ساحة الحوار على موقع "إسلام أون لاين.نت"، ففي إحدى المداخلات علق أحد المشاركين على مقال "الفرجة بين الرقابة والتقويم"، فأشار إلى السينما الإيرانية الإسلامية وقدمها بوصفها مثالا يحتذى.
سميرة تتخلى عن الشادور خارج إيران
تكرار استخدام صفة إسلامية هو ما أثار دهشتي: لماذا يعتبر المثقفون السينما الإيرانية إسلامية؟ ولماذا يجب النظر إليها باعتبارها النموذج الذي ينبغي اتباعه؟
محاولة الإجابة على هذا السؤال تؤدي بالضرورة لسؤال آخر حول خصائص السينما الإيرانية التي تجعلنا نراها إسلامية، ثم إلى أسئلة أخرى حول العلاقة بين السينما والدولة الإسلامية في إيران، وموقف السينما الإيرانية من السياسة. لماذا تفوز السينما الإيرانية في المهرجانات الدولية؟ وهل لهذا علاقة بالسياسة العالمية؟ والإجابة على كل هذه الأسئلة ستقود -بالضرورة- إلى رؤية مختلفة عن الرؤية السائدة لهذه السينما.
التزام أم خضوع للرقابة؟
يقول الأخ المشارك في ساحة الحوار:
"السينما الإيرانية وصلت للعالمية من دون أن تكشف المرأة حتى غطاء رأسها". هذا القول يبدو صحيحا، لكنه يتجاهل أن الشادور الذي تستخدمه كل الممثلات الإيرانيات ليس من خصائص السينما الإيرانية، بل هو -ببساطة- فرض رقابي يمثل بعضا من المحاظير التي تفرضها الرقابة الإيرانية التي هي جزء من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، ومنها عدم ظهور المرأة دون تغطية شعر رأسها حتى لو كانت نائمة، وعدم تواجد رجل وامرأة في لقطة حميمة، وعدم تلامسهما طالما لم يكونا متزوجين في الواقع.
وكل ذلك ممنوعات رقابية يخضع لها السينمائيون الإيرانيون جميعا وبمختلف اتجاهاتهم وكلهم يرفضونها بالمناسبة.
مخملباف
وفي مقابلة مع المخرج أحمد رضا درويش وهو من المنتمين للتيار الإسلامي الإصلاحي، أي أنه لا يمثل المدرسة العلمانية مثل: داريوش مهرجوي أو بهرام بيضائي، قال: طلب مني مدير الرقابة حذف لقطة من فيلم أرض الشمس، حيث ترضع المرأة طفلها، وكانت من أهم لقطات الفيلم، فقلت له: هل رأيت أي خلاعة؟ قال: لا، ولكن وضعها الطفل في صدرها أمر مثير! فقلت له إذن إظهار امرأة حامل هو أمر مثير أيضا!
أحمد رضا درويش وهو إسلامي، وليس علمانيا يعتبر الرقباء مجموعة من المنتفعين وعديمي الموهبة، وهذا رأيه، وكذلك رأى محسن مخلمباف والد سميرة وصاحب مؤسسة مخلمباف للسينما وهو من السينمائيين الإسلاميين الكبار.
أما ابنته المخرجة الشابة سميرة فتعبر عن رفضها للحجاب الذي تفرضه عليها الرقابة بشكل عملي حين تتخلى عن الشادور خارج إيران، مثلما الحال في حفل تسليم جائزة مهرجان كان الأخير!
كيف يتحايلون على الرقابة؟
كيروستامي
إذن نستطيع أن نقول: إن معظم السينمائيين الإيرانيين يرفضون تماما القواعد الرقابية. تلك التي ربما يعجب بها المثقفون الإسلاميون، ويرون فيها دليلا على إسلامية السينما الإيرانية ويعتقدون أنها التزام. فالسينمائيون الإيرانيون لا يلتزمون بها وكثيرا ما يتحايلون عليها؛ أحيانًا بصنع الأفلام خارج البلاد (تركيا مثلا، كما في حالة محسن مخلمباف)، أو بالاتجاه لصنع أفلام الأطفال كما في حالة جعفر بناهي (البالون الأبيض)، أو كياروستامي (أين صديقي؟).. التي كثيرا ما تكون الحل السحري للالتفاف على الرقابة، حيث تتحول الواقعية المفرطة عند كياروستامي وتلميذه ومساعده بناهي إلى رمزية عميقة، وتصبح الصور واللقطات جملا محملة بالمعاني والأفكار التي ترفضها الرقابة، هذا الأسلوب الرمزي الواقعي يعود إلى ما يسمى بالموجة الجديدة في السينما الإيرانية التي بدأت مع فيلم "قيصر"إخراج مسعود كيميائي، و"البقرة"إخراج داريوش مهرجواي في نهاية الستينيات والمخرجان كيميائي وبيضائي من أهم رموز السينما الإيرانية حاليًا أيضًا، وكلاهما من التيار العلماني.
في "البقرة"وبإمكانيات قليلة جدًّا يحكي مهرجوي قصة جنون فلاح فقير نتيجة موت بقرته أو مورد رزقه الوحيد، ويستخدم أسلوب السرد المباشر واللقطات الكبيرة للتعبير عن مأساة هذا الفلاح البسيط الذي يتحول إلى رمز عام للشعب الإيراني الفقير المقهور تحت حكم الشاه.
خصوصية إيران
هذه الرمزية لها جذورها في التراث الفارسي للحكي سواء في قصص الحيوانات (وكلنا يتذكر عبد الله بن المقفع مترجم كليلة ودمنة) أو في شاه نامة الفردوسي، أيضًا تستمد الرمزية دعماً من فكرة "التقية"عند الشيعة والتي كان المأثور الشعبي الفارسي الديني يستدعيها في روايات "التعزية"أو قصص مصارع شهداء آل البيت وكان يؤديها رجال حتى في الأدوار النسائية.
السينمائي الإيراني يلجأ إلى الرمز البصري مثل البالون الأبيض المنطلق للتعبير عن الرغبة في الحرية كما في (البالون الأبيض) لجعفر بناهي، أو الرمز الدرامي مثل فيلم كياروستامي الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان ( طعم الكرز) الذي يتحدث عن مثقف يريد الانتحار ويثنيه عن رغبته تلك سائق بسيط يعرف المثقف من خلال حواراتهما البسيطة أن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش، الفيلم إدانة لمجتمع - هو يعني هنا المجتمع الإيراني! - يدفع الفرد إلى الجنون والرغبة في الانتحار ولكنه أيضًا تمجيد للحياة وانتصار للإنسان.
بعض هذه الرموز لا يمكن فهمها بسهولة من قبل المتفرج الغريب عن الثقافة الإيرانية، ففي فيلم "العشاء الأخير"الذي مثل إيران في مهرجان القاهرة السينمائي 2002 وحصل على إحدى الجوائز يقدم المخرج الزوج - الشخصية السلبية الرئيسية - في دور موظف كبير بوزارة العدل، أي كشخصية محافظة دينيا ومتزمتة سياسيًا؛ حيث من المعروف أن هذه الوزارة معقل المحافظين سياسياً، وبينما كانت كل الشخصيات الإيجابية، سواء الأم أو الشاب زميل ابنتها وزوجها فيما بعد أو أبوه أو أخته، تحمل أسماء ماني وغيرها من أسماء فارسية قديمة كان اسم الزوج "محسن"الذي يحمل دلالات دينية في إيران!
كيف نفهم السينما الإيرانية؟
وربما لا ندرك نحن غير الإيرانيين هذه الإسقاطات والرموز لكونها خارجة عن نطاق معرفتنا وثقافتنا أو لكوننا -أحيانا- لا نريد أن نرى السينما الإيرانية إلا في إطار رومانسي أيديولوجي لا يرى فيها إلا نموذج لما يظنه سينما إسلامية تنجح وتصل للعالمية! لكن هذه الرموز بمثابة ألف باء عند الجمهور الإيراني.
أذكر أنني قابلت مخرجا إيرانيا اسمه فروج كريم في مهرجان مانهايم السينمائي بألمانيا عام 1991 وكان يعرض فيلمه الأول "الفصل الأخير"وتناقشنا حول السينما الإيرانية وأبديت إعجابي بفيلم "الغريب والضباب"لبهرام بيضائي بوصفه فيلما يتنبأ بالثورة وبقدوم الإمام الخميني، وهنا ضحك قائلا إن هذا الفيلم بهائي ومليء بالرموز البهائية، و"الغريب"رمز للبهاء وليس للخميني وكل الإيرانيين قد فهموا هذا بسهولة!
مثال آخر على هذا، فيلم "ذات الحجاب الأزرق"للمخرجة راخشان بني اعتماد، فالفيلم ينتهج أسلوب الواقعية الشديدة ويقدم علاقة رجل أعمال غني، بفتاة عاملة متمردة، بعد موت زوجته وعلاقة بناته به بعد زواجه من الفتاة، وكان الرمز الأساسي في الفيلم هو "الحجاب الأزرق"أو بالأحرى اللون الأزرق الذي هو في الثقافة الإيرانية لون العثمانيين السنة وهم الأعداء التقليديين للشيعة بلونهم الأسود المعروف! والتمرد عند الفتاة يتحول إلى تمرد عام ورفض سياسي من خلال هذه الجزئية الصغيرة.
هذه الجزئيات والرموز والتحايل لا تمر على الرقيب الإيراني أو المسئولين، لذلك أحيانا ترفض الأفلام وأحيانا أخرى يتم تهميشها وتوضع في دور عرض صغيرة وهكذا. ولكن حاليا هناك انفتاح كبير خاصة بعد انتخاب الرئيس خاتمي والذي أيده كل السينمائيين، وتعرف هذه السينما باسم سينما الثاني من خرداد (مايو) أي سينما ما بعد انتخاب "خاتمي".
ماذا تعني الجوائز العالمية؟
ما يوطد موقع السينمائيين الإيرانيين في مواجهة الرقابة هو الجوائز والمهرجانات الدولية، الدولة ترى المهرجانات وسيلة للانفتاح على العالم والتفاعل معه، وأوروبا والعالم الغربي يرى في الجوائز دعمًا لاتجاه ثقافي وسياسي معارض للنظام الإسلامي في إيران، وهي نفس المعادلة التي كانت سارية إبان الحكم الشيوعي حيث كانت الأفلام القادمة من دول الستار الحديدي تحظى بتأييد شديد وتحصد الجائزة تلو الأخرى فقط لأنها معارضة رافضة للنظام الشيوعي.
هذا لا يعني بالضرورة أن تلك الأفلام رديئة بل يعني ببساطة أن ثمة توازنا في معادلات الحصول على جوائز في مهرجانات السينما وأن التقويم النهائي غير موضوعي، بل هناك ضغوط سياسية واجتماعية وحتى نفسية على أعضاء اللجنة التحكيم في أي مهرجان.