دور الحركة الإسلامية في المجتمع المدني
القاهرة - أسامة القفاش
يقصد بالحركة الإسلامية هنا مختلف اتجاهات التيار الإسلامي في مصر سواء ما تبلور في شكل تيار الإسلام السياسي بمختلف تضاريسه بدءا من الاخوان المسلمين وانتهاء بالتيارات التي تبنّت فكرة العنف مثل الجهاد والجماعة الإسلامية. كذلك يشمل المفهوم بالمعنى المستخدم هنا الاتجاهات الاسلامية التي لا تشارك في العمل السياسي مثل التبليغ والدعوة او السلفيين. ويتضمن المفهوم ايضا التجمعات ذات الطابع الإسلامي من دون أيديولوجية محددة سواء سياسية أو لا سياسية مثل لجان الزكاة والجمعيات الخيرية التابعة للمساجد.
ويجب أن نلاحظ في هذا الصدد أنه لا وجود لحدود دقيقة، خصوصا فيما بين البعدين الثاني والثالث وكذلك فيما يخص تداخل حركة الاخوان المسلمين، وربما كان الفرق الواضح هو تمايز التيار العنيف عن بقية اتجاهات الحركة الاسلامية.
مجال الرصد الزمني
اخترنا فترة الثلث الأخير من القرن العشرين فيما بين سنوات السبعينات وبالذات بعد 73 عاما فاصلا. وحتى العام 95 بوصفه عاما محددا آخر، يعتبر العام 73 عاما حاسما في الرصد لان التغيرات التي حدثت فيه كانت تغيرات كيفية فعبر حرب أكتوبر استطاعت حكومة الرئيس السادات ان تحل جزءا كبيرا من أزمتها الخارجية والتي كانت قد سببت الكثير من التوترات في الداخل وخصوصا في مجال الحركة الطلابية المصرية في الاعوام 71 و72 و73.
وكذلك شكل العام 73 نقطة انعطاف حاسمة في توجهات حكومة الرئيس السادات الخارجية والداخلية. إذ طرحت بوضوح بعده فكرة الحل الأميركي للقضية، وأيضا تغيرت التوجهات الاقتصادية الداخلية وطرحت سياسة الانفتاح الاقتصادي بديلا للحلول الدولية المغطاة بتوجهات أيديولوجية اشتراكية وترافق مع هذا الطرح الاقتصادي الذي يتيح الفرصة للقطاع الخاص والرأسمالية المحلية العالمية للاستثمار، طرح سياسي يدعو إلى الحرية السياسية وإطلاق حرية تكوين الاحزاب وشهد عقد السبعينات بعد 73 ظهور الاحزاب السياسية من جديد وعودة قوية إلى التيار الاسلامي السياسي بما يمكن تسميته بمرحلة القبول المتبادل بين الحكومة والتيار الاسلامي وعلى رغم اتجاه التيار منذ البداية إلى المعارضة، فإنه كان حليفا لاشك فيه للحكومة في معركتها مع التيار اليساري بمختلف اتجاهاته.
بينما على المستوى الآخر يعتبر العام 95 كذلك عاما فيصلا إذ دخلت الحكومة المصرية في مواجهة عنيفة مع الاخوان المسلمين وهي استمرار للمواجهة الدامية التي دخلتها ضد التيار العنيف من الجهاد والجماعة الاسلامية.
المجتمع المدني
مصطلح مراوغ مخادع وليس له تعريف واضح ومحدد. ونستخدمه هنا بحيث يشمل كل المؤسسات الاجتماعية خارج النطاق الحكومي بما في ذلك التجمعات النقابية العمالية والمهنية والطلابية والجمعيات الخيرية وحتى الشركات الخاصة والمراكز البحثية. فالمفهوم هنا هو مفهوم شمولي يجمع كل التنظيمات والمؤسسات خارج السيطرة الحكومية. وسبب هذا أن التحول من السيطرة التامة للدولة على مجالات الحياة كافة في مصر، جعل اي خروج عن هذه السيطرة نوعا من العودة إلى الحياة المدنية. كما ان إنشاء الشركات وتكوين الاتحادات كان احد وسائل الافراد للتنظيم والتجمع خارج نطاق الدولة. وربما كانت أبرز تجربة في هذا الصدد تجربة توظيف الأموال في الثمانينات.
عودة الحركة الإسلامية
شهدت السبعينات السابقة عودة التيار الاسلامي إلى الحياة العامة في مصر بشكل كبير بعد الضربات المتلاحقة التي وجهها نظام يوليو 52 إلى حركة الاخوان المسلمين في الخمسينات والستينات، وبعد سنوات الستينات التي شهدت معدلات متزايدة من إبعاد الدين عن المجال العام وقصر ذلك على الممارسات الفردانية ونحب ان نشير في هذا الصدد إلى ان الدولة لم تعلن قط عزمها فصل الدين عن الدولة تماما وما حاولت أبدا ان تعادي الدين في ذاته، وإنما كان العداء دائما موجها نحو التحرك السياسي لأية قوة.
وتجلت مظاهر هذه العودة - ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة أسبابها - في ازدياد الجمعيات الدينية الملحقة بالمساجد وظهور نوع من الشيوخ/ النجوم في مساجد بعينها على مستوى الجمهورية وتفوض «الجماعة الاسلامية» وهو الاسم الذي اختاره الطلاب المنتمون إلى التيار الاسلامي في انتخابات الاتحادات الطلابية على مستوى الجمهورية وازدياد نسبة الطالبات المحجبات، والطلبة الملتحون وظهور الكثير من المجالات ذات الطابع الإسلامي مستقلة عن الدولة (الدعوة والاعتصام الخ...).
ومثلت هذه المظاهر استجابة للكثير من متطلبات الأفراد في المجتمع المصري بشكل كبير.
فلم تكن الجمعيات الدينية في المساجد (التي ازداد عددها ونشطت حركة بنائها كثيرا بصرف النظر عن عملية انشاء المسجد تحت العمارات كنوع من الاستفادة من نوعية معينة من القوانين) مجرد جمعيات لتحفيظ القرآن أو الدروس الدينية وانما أصبحت جمعيات خدمة مجتمع محلي CBO من الدرجة الأولى وكنا نجد دروس تقوية (لمواجهة ظاهرة الدروس الخصوصية بشكلها الفرداني مدرس - طالب) ومستوصفات (لمواجهة ظاهرة ارتفاع أسعار العلاج وضعف الخدمة الطيبة المجانية) ومشاغل (لمواجهة ظاهرة البطالة وعدم وجود أماكن عمل للخريجين على رغم التزام الدولة بذلك) ودور حضانة (لمواجهة ظاهرة عدم وجود رعاية عامة للأطفال وعدم قدرة المرأة العاملة على استجلاب مربية خاصة) وهكذا... بمعنى ان هذه الجمعيات مثلت استجابة لمتطلبات الأفراد في المجتمع بشكل كبير، وهذه المتطلبات ازدادت نتيجة لسياسة انسحاب الدولة من المجال الخدمي وترك هذا المجال للأفراد. ومن ثم فالدور الخدمي الذي لعبته الجمعيات الدينية في السبعينات كان دورا مطلوبا من الدولة ومن المجتمع على المستوى نفسه.
ولم يقتصر هذا الدور الخدمي المتميز على الجمعيات الدينية فقط (نذكر منها على سبيل المثال جمعية مسجد سيدي بشر بالاسكندرية) بل تعداه إلى المؤسسات الأخرى التي دخلها والتي دخلها التيار الاسلامي وخصوصا الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية فيما بعد.
كان المجال الخدمي هو المدخل الذي عاد منه التيار الاسلامي إلى الوجود بقوة داخل المجتمع في مصر في السبعينات وهو الذي أقصي عن الساحة طوال فترة الستينات.
يمكننا هنا ملاحظة أن هذه العودة استقبلت بترحاب من الدولة لأسباب كثيرة منها المساندة في المعركة السياسية ضد اليسار، ولكن السبب الأهم في نظرنا هو أن التيار الاسلامي لعب دورا مهما في تعويض الفرد عن انسحاب الدولة التدريجي من كثير من أنشطة الحياة الاجتماعية.
الأهم من احتياج الدولة لهذا الدور كان احتياج الفرد، وطبعا لا ننكر هنا أهمية الدين باعتباره مكونا اساسيا في ثقافة المواطن العربي/ المسلم بشكل عام، ولكن هذا الاحتياج شكّل أحد الروافد الأساسية لالتفاف الأفراد حول التيار الديني، وهذا المدخل أي رؤية استجابة الأفراد للتيار الديني بوصفها استجابة لتلبية احتياجاتهم على مستوى الخدمات الاجتماعية والتنظيم المجتمعي بعيدا عن الدولة والمجال السياسي، لا يعني اطلاقا التقليل من أهمية المجال السياسي وانما المراد هنا بالاساس لفت النظر إلى أن الفرد المصري تجاوز هذا المجال ربما لتشوه النمو السياسي وسيطرة الدولة، ولكن نلاحظ هنا أنه تجب المقارنة بين تجاوز المجال السياسي الحادث في مختلف دول العالم وظهور المواطن الاجتماعي المشارك في مختلف مجالات مجتمعة من دون المبالاة بالمجال السياسي كثيرا، وبين تجاوز المجال السياسي الذي حدث في مصر في السبعينات.
الدولة (المجتمع) التيار الاسلامي في الثمانينات
كان العام 1981 بمثابة نقطة تفصل في علاقة الدولة بالتيار الاسلامي وايضا في تحديد اتجاهين متمايزين داخل هذا التيار سياسيا.
لقد وصل الصدام السياسي الذي بدأ في نهاية السبعينات إلى أوجه - ولسنا هنا بصدد استعراض الصدام أو اسبابه - مع اغتيال الرئيس السادات، وأدّى هذا إلى الظهور الواضح لتيار رفض العنف داخل الحركة الاسلامية سياسيا (الاخوان) في مواجهة التيار العنيف (الجهاد - الجماعة الاسلامية الخ...).
وأدى هذا ايضا إلى قبول الدولة لدور سياسي (ليس فقط خدمي واجتماعي) للتيار الاسلامي الرافض للعنف لمساعدتها على مواجهة تيار العنف.
ومن ثم ازداد دخول التيار الاسلامي الرافض للعنف في المجتمع المدني وازدادت بالتالي طموحاته السياسية. وهنا تكمن - في نظرنا - المشكلة الرئيسية.
فبينما كان الأداء الاجتماعي للتيار الاسلامي محط تقدير واعزاز الفرد في المجتمع كان الطموح السياسي للجماعة محل صدامها المستمر مع الدولة. وكان الأفراد بشكل عام ومتزايد يبتعدون عن هذا الصدام ولا يتدخلون فيه.
ونضرب هنا مثالا حدث في الاسكندرية في مطلع التسعينات حين اعتصمت جماهير الورديان (إحدى المناطق العمالية والشعبية) مدافعة عن جمعية مسجد خيرية هناك، وتمت تسوية سياسية للوضع نظرا إلى قرب موعد الانتخابات البرلمانية. المشكلة أن الجماهير في مصر لا تبالي بالانتخابات البرلمانية (ونرجو مراجعة نسب تردد الأفراد على الانتخابات) ولا تبالي بتزويرها (ولا حاجة في نظرنا إلى دليل على هذا) بل وكل ما تطلبه من النائب البرلماني أداء خدمي مجتمعي. ونعتقد ان هذا لا يدل على قلة وعي الجماهير (وهي عبارة تستخدم دائما لتبرير فشل التيار السياسي) ولا على القهر السياسي (ونعتقد أن الحريات الديمقراطية المتاحة لم يتم استغلالها بشكل كامل حتى الآن) وانما يدل في نظرنا على أن الجماهير المصرية تجاوزت هذه المرحلة (السياسي المؤدي إلى الخدمي) وأن الحركة الجماهيرية الموازية (المراكز الصحية الناشئة، لجان الزكاة، الجمعيات الخيرية الخ...) تكرس دورا أكبر للمجال الاجتماعي وصولا إلى مفهوم المواطنة الاجتماعية بديلا عن المواطنة السياسية.
وأن الطموح السياسي (المشروع) للحركة الاسلامية الرافضة للعنف جعلها تنشغل عن أهمية الدور الاجتماعي الذي لعبته، وتغفل هذا التطور في موقف الفرد من السياسة ومن ثم تكرار الصدام مع الدولة وتكرار انفضاض الجمهور عن الحركة
نشر المقال بجريدة الوسط البحرينية
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 161 - الجمعة 14 فبراير 2003م الموافق 12 ذي الحجة 1423هـ