فكرة علم انثروبولوجيا الاسلام
طلال اسد
مارس 1986
مركز دراسات العرب
جامعة جورجتاون و اشنطن
ترجمة وتعليق اسامة القفاش
طلال اسد
مارس 1986
مركز دراسات العرب
جامعة جورجتاون و اشنطن
ترجمة وتعليق اسامة القفاش
مقدمة: اهمية المقال و من هو طلال اسد؟
بالرغم من حبي الشديد لعلم الانثروبولوجية منذ بداية السبعينات في القرن الماضي و دراستي بدأب لكل اعمال كلود ليفي شترواس و من قبله اعمال كثيرة لايفانز بريتشارد ورادكليف براون و ايضا متابعتي لسول تاكس و غيره من الانثروبولوجيين لم اتعرف على طلال اسد احد اهم الانثروبولوجيين المعاصرين الا مؤخرا عبر الصديق والاخ العزيز سعيد خالد الحسن
وكانت بداية معرفتي بالعالم الكبير من خلال كتابه الرائع عن التفجيرات الانتحارية ثم استمعت الى حوار هام معه واقدم رابطا لهذا الحوار لمن يريد و كرت المسبحة... المقال الذي اقدمه اليوم هو محاضرة هامة القاها في مركز دراسات العرب بجامعة جورجتاون بواشنطن
http://www.youtube.com/watch?v=kfAGnxKfwOg
تتميز كتابات طلال اسد بعدة مميزات في تقديري وسأحاول ان اوجزها في ما يلي
رؤية الآخر عبر مرآة الذات
حيث يحاول دائما ان يطرح تعريفا محددا للذات و عبر هذا التعريف يتحاور مع الآخر و لايقع فريسة لاطار الآخر المرجعي. وهو ما سنجده هنا في اطار محاولته المستمرة لطرح تعريفا واضحا للاسلام و دحض الرؤى المغيمة و الضبابية التي تجعل الاطار المرجعي للتعامل متسعا لدرجة الغياب او ضيقا لدرجة رفض اي رؤية اخرى.
النفس و اتساعها و الذات و ضيقها
في اطار رؤيتي التي طرحتها في كتاب مفاهيم الجمال في طبعته الثانية و التي اعكف الآن على بلورتها في كتاب جديد ، اعتقد ان علينا التمييز بين مكونين اساسيين في الانسان اولهما ما اسميته النفس و ألاخر هو ما ادعوه الذات.
النفس هي تركيبة كما يرىكيركجارد
و هي في تقديري مكون منفصل عن الروح و عن الجسد بمعنى اتصور ان ثمة بناء ثلاثي للكيان الانساني تتقاطع مكونات هذا البناء ما بين جسد مادي و روح هي من امر ربي و نفس سواها الخالق والهمها فجورها وتقواها فهي همزة الوصل بين الخالق و الانسان وهي الجسر الذي يربط بين الجسد والروح و هي التي تتواصل مع غيرها من الانفس على مستويات عديدة
مستوى العلاقة الربانية الذي يسمى بالمحبة في الله
وهنا نجد الانفس تتواصل و تتلاقى بشكل اعلى من التلاقي المادي بل ونحس ان النفس ترتبط مع النفس الاخرى برباط وثيق و كأنه اعمق من رباط الدم "رب اخ لك لم تلده امك"
في هذا المستوى لا تحتاج النفس الى اللغة كاداة اتصال فهي مستغنية عنها لان التواصل قائم في ابعاد اخرى ترتبط اكثر بالروح و بالخالق.
لكن هذا المستوى ليس المستوى الوحيد للنفس و لا هو درجتها الوحيدة (وهنا ينبغي لنا ان نفرق بين مستويات علاقات النفس وبين درجاتها وايضا تجلياتها و لكن هذا موضوع آخر.)
فهناك مستويات اخرى عديدة وهو ما سنناقشه هنا
مستوى علاقة النفس بالنفس في الاطار الاجتماعي
وهو مستوى بناء المجتمعات البشرية و تكوين الجماعات الانسانية وهو المستوى العمومي الانساني
انه مستوى التدافع الحادث بين البشر و هو مستوى التفاعل الانساني العام كما قلت و ايضا هو مستوى الفعل و التواصل الاساس
هنا اتصور ان النفس تطرح نفسها في علاقتها مع الآخرين بشكل الذات حيث يحتاج هذا المستوى الى تواصل عبر اداة اللغة و يحتاج الى ادوات اتصال و طرق تعبير اخرى ذات طبيعة اكثر مادية واكثر التصاقا بالجسد و تشكله المحسوس
اي يحتاج الى اتصالات تنتمي الى عالم المحسوسات بكل تفرعاته و اتساعاته. وهنا نجد ان النفس تتحول او بالاحرى تتحور لتكون ذاتا.
الذات في تصوري هي جزء من النفس تحور ليعطي للنفس القدرة على التحاور مع غيرها من الانفس دون ان تكون نفسها تماما اي انه جزء متكيف مع السلوك الاجتماعي و طبيعة عالم الاتصال المجتمعي ويعبر عن نفسه عبر اللغة ووسائل التعبير المحسوسة.
هذه التفرقة ضرورية لفهم مستويات كتابة طلال الاسد فبالرغم من تركيزه على مستوى العلاقات الاجتماعية و المجتمعية بكل تجلياتها الاقتصادية و العسكرية و السياسية و الثقافية الا انه يرى وبوضوح البعد الانساني المرتبط بالنفس في موضوع دراساته اي الاسلام كدين. بمعنى طلال لا يغفل الابعاد الاقتصادية و الثقافية بل يطرحها بقوة و لكن الاهم في تقديري هو رؤيته للابعاد الاخرى الكامنة في علاقة النفس بالانفس الاخرى في اطار الرؤية الاسلامية. وهو ما نجده ايضا في فهمه لقضية اللغةاللغة كتعبير عن الاتصال بين الذات و الذوات الاخرى
اللغة كوسيلة اتصال ووسيلة تعبير قضية اساسية في فهم العلاقات الانسانية و فهم الانسان و قضية اصل اللغة و معنى الملكات اللغوية و طبيعتها و تواجدها التشريحي او تمثيلها الدماغي كل هذه المباحث شغلت الباحثين منذ اقدم العصور . اتصور ان من الممكن رؤية اللغة ايضا بوصفها وسيلة الدخول الى اعماق النفس الانسانية و معرفة علاقة الذات بالنفس كما طرح لاكان وتلامذته بشكل ما .
تكوين الجماعة و فكرة الانتماءإن حاولنا ان نضع تقسيما لما حدث لخريطة المنطقة الممتدة من تركستان الشرقية او منطقة شعب اليغور في الصين و التي تسمى ايضا سنكيانج وحتى المحيط الاطلسي و من جبال الاورال حتى السواحل الجنوبية الشرقية من قارة افريقيا مع الوضع في الاعتبار ان حدود شمال /جنوب لانتشار الاسلام ليست بنفس درجة وضوح حدود شرق /غرب
يمكننا ببساطة ان نرى وبدرجات متعددة من الوضوح 4 فئات كبرى
هناك تجمعات بشرية يمكننا تسميتها شعوبا او قبائل او امم كيفما شئتم وهذه التجمعات قبلت العربية و الاسلام مثل معظم سكان المنطقة العربية
هناك تجمعات بشرية قبلت الاسلام ولم تقبل العربية مثل سكان فارس و ووسط آسيا و معظم سكان افريقيا و جنوب شرق آسيا الخ
هناك تجمعات بشرية قبلت العربية ولم تقبل الاسلام مثل اقباط مصر و مختلف فرق نصارى الشام و ايزيدية العراق الخ
هناك تجمعات بشرية تعيش في المنطقة هذه لم تقبل العربية ولم تقبل الاسلام مثل المجوس في فارس و معظم الشعوب الافريقية ذات التوجه الحيوي و الاورانج اصلي في ماليزيا الخ ايضا
هذه هي الخريطة العامة و لنشدد جدا على صفة العمومية و التي اشرنا اليها في قولنا بدرجات متعددة من الوضوح
بمعنى هنا ننتقل من تقسيم او تصنيف او تفنن جغرافي وديموجرافي له ابعاد تاريخية الى تصنيف لغوي ونفسي وله ابعاد فلسفية
ولتوضيح ما نعنيه
دعونا ننظر مثلا في لغة اهل البوسنة وهم من الشعوب التي لم تقبل العربية ولكنها قبلت الاسلام
سنجد الكثير من المفردات العربية قد ارتحلت عبر التركية لينتهي بها المقام في البوسنية بمعنى قريب من معناها الاصلي او له به
مثلا هناك اكلة مشهورة في سراييفو اسمها
الساهن و بالطبع لو امعنا النظر سنجد انه صحن العربية التي اضيف لها ال التعريف
الكلمة لم تعد تعني الوعاء الذي نأكل فيه بل صارت علما على محتويات هذا الوعاء و هي اقرب ما يكون الى التورلي او طاجن الخضار لاشباع فضولكم وليس بطونكم
ايضا لنرتحل بعيدا الى اقصى الغرب و اقصى نقاط الشمال ايضا فسنجد ان اللغة الاسبانية تحفل بالكلمات العربية الاصل و البرتغالية ايضا وان بدرجة اقل
و الامثلة كثيرة ولا تحصى و اشهر من ان نذكرها
الفارسية والتركية و السواحيلية امثلة ايضا من اللغات ذات الاصول اللغوية التي تأثرت كثيرا بالعربية و بها العديد من الكلمات بل احيانا التراكيب اللغوية مما يعني ان تأثير العربية قد تجاوز مجرد معنى الكلام الى مبناه او بعبارة اخرى تجاوز البعد السيمانطيقي الى ابعاد بنيوية او بتعبير تشومسكي اثر في البناء التحتي للغة
و اشهر مثال هنا هو
El
في الاسبانية وهي اداة التعريف للمذكر وتعادل
le
في الفرنسية
المقصود بما سبق من عجالة تحتاج لابحاث كثيرة و دراسات اكثر ان التأثير لم يكن غائبا و ان الرفض او القبول لم يكن حاسما
وازعم ان هذا كان على مستوى اللغة والدين معا فهناك تأثيرات مختلفة من الاسلام على معتقدات الشعوب و ايضا من معتقدات هذه الشعوب على طريقتها في ممارسة اسلامها
في تقديري ان العربية لم تحل محل الديموطية او الديموطيقية لسبب بسيط هو ان الديموطيقية كانت قد انقرضت او تراجعت كثيرا
في عصر الفتح الاسلامي او دخول العرب لمصر
كانت اللغات السائدة هي اللاتينية التي حلت محل اليونانية الهلنيستية كلغة للنخبة المحتلة و القبطية القديمة او الوسيطة التي هي تطوير ايضا للديموطيقية
ما اسماه صاحبقول المقتضب فيما وافق اهل مصر من لغات العرب
المسمى ابن ابي السرور (و الكتاب مطبوع ومتاح)
سلطان اللغة الغازية وهو ماحدث مع النخب في مصر بعد الغزو الروماني و من قبله اليوناني و لنتذكر ان فيلو كان يعتقد ان التوراة قد كتبت باليونانية
ما اتصوره هو ان تطور اللغة المصرية القديمة قد وصل الى القبطية الوسيطة وان هذه بدورها سارت في مسارين وصل احدهمت بنا الى القبطية المحدثة بينما وصل الآخر الى العربية حيث ان اللغات من ارومة واحدة كما طرحت في مفاهيم الجمال وايضا في دراسة الترجمة في كتاب المفاهيم
العربية حلت في مصر محل لغة النخبة السياسية و ايضا محل لغة العامة لاسباب مختلفة في تقديري ان اهمها هو الاصول المشتركة و التواجد الحياتي و ربما يفسر لنا هذا قبول تجمع حياتي كبير مثل القبط العربية و عدم قبوله للاسلام
على العكس مثلا من تجمعات المغرب الكبير التي قبلت الاسلام باسرع من قبولها العربية
ايضا يفسر هذا جزئيا احتفاظ اهل النوبة بلغاتهم (وهما لغتين و ليستا لغة واحدة) و بشفاهيتها بالرغم من استخدامهم للعربية
الاتصال مع الخالق و فكرة الفن و اتساع رقعة التعبير بعيدا عن ضيق اللغة وحدودها
اتصور ايضا ان دور النفس الاساسي في الاسلام هو الاتصال بالخالق سبحانه وتعالى اي العبادة
قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} سورة الذاريات،الآية56و 57
بينما اختلف العلماء في تفسير الآيةفقد اجتمعوا على ان اساس الخلق و غايته هي العبادة . و اتصور ان العبادة التي تتجلى في الصلاة هي الاتصال بالخالق و الدخول في عباده...
قال الله تعالى "يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي"سورة الفجر الآيات 27-30
وهنا ارى ان الدخول في عباد الرحمن الراضين المرضيين هو اسمى مراتب النفس وهو غايتها الكبرى..
يتحقق هذا الدخول بالطاعة و التقوى و العدل و يتحقق اساسا في مجال النفس الاساس ، بمعنى ان الذات الاجتماعية المتحورة مسؤولة عنه و لكن بدرجة اقل
وهذا لان الهدف الاسمى يجعل الاتصال ارحب و اكثر اتساعا و غير محدود بحدود اللغة و المجتمع. هذا الهدف يتحقق في تقديري ايضا عبر الفن و الاحساس بالجمال الذي هو من تجليات الخالق سبحانه وتعالى وهو ما طرحته في كتابي مفاهيم الجمال رؤية اسلامية.
اتساع رقعة التعبير بالفن و الجمال بما يتجاوز حدود اللغة يؤدي الى ان النفس حين تتذوق الجمال فهي تتعبد وتذكر الرحمن. ما قصدته هنا هو توضيح رؤية اتصور انها تتقاطع مع اعمال الانثروبولوجي الكبير.
و ربما اكون على صواب او على خطأ و الله اعلم.
المقال
1تزايد الاهتمام مؤخرا بموضوع يدعى انثروبولوجيا الاسلام. و لقد تضاعفت الكتابات الانثروبولوجية الغربية التي تحتوي على كلمات اسلام او مسلم في العنوان و كأنها متوالية هندسية.و اعتقد ان الاسباب السياسية التي دعت لهذا و خلقت مثل هذه الصناعة اوضح من ان تستدعي تعليقا عليها. و مهما كان هذا الامر اود ان اركز هنا على الاساس المفاهيمي لهذه الكتابات. وندعونا نبدء بسؤال شديد العمومية. ماهو بالضبط علم انثروبولوجيا الاسلام؟؟؟ ما هو موضوعه البحثي؟
قد تبدو الاجابة بديهية جلية... فما تبحثه انثروبولوجية الاسلام هو بالتأكيد الاسلام. لكن كي نضع الاسلام كموضوع بحثي مفاهيمي تدرسه الانثروبولوجية ليس بالامر اليسير كما قد يظن بعض الكتاب.
و يبدو ان هناك ثلاث اجابات على الاقل على السؤال الذي طرحناه آنفا:(أ)الاولى ترى انه في التحليل النهائي لا يوجد موضوع نظري يمكن ان ندعوه الاسلام. (ب) بينما تدعي الثانية ان الاسلام هو الاسم الذي يطلقه عالم الانثروبولوجية على المجموع غير المتجانس لاشياء متعددة ، كل منها الصق به المخبرون صفة اسلامي.(ت) و تظن الثالثة ان الاسلام جماع تاريخي ينظم مختلف جوانب الحياة الاجتماعية. و سننظر في عجالة مختصرة إلى الاجابتين الاوليين ثم نتفحص الثالثة نظرا لانها في تقديرنا اكثرها اثارة للجدل و اكثرها مقدرة على التفسير بالرغم من كونها غير مقبولة.
منذ عدة اعوام ناقش الانثروبولوجي عبد الحميد الزين(1) هذا السؤال مناقشة مستفيضة في استبيان كان عنوانه "ما بعد الايديولوجية و الثيولوجية: بحثا عن انثروبولوجية للاسلام"وكان هذا مجهودا يستحق التقدير بالرغم من انه كان بلا طائل في النهاية
الخلاصة هي ان ثمة اشكال متعددة من الاسلام ، كل منها له وجاهته و واقعيته و كل منها يستحق الوصف و قد ربط كل هذا بشكل محير بالتأكيد على ان كلها في النهاية تعبر عن منطق لا شعوري مبطن. و هذه الزلة ذات الدلالة و التغير من السياقية الانثروبولوجية الى العمومية الشتراوسية (2) قادته الى الجملة التي ختم بها دراسته
"ومن ثم يتبخر الاسلام بوصفه فئة تحليلية ايضا"بعبارة اخرى ان لم يكن الاسلام فئة تحليلية لا يمكن القول بان ثمة ما يمكن ان ندعوه علم انثروبولوجية الاسلام.وهذا كل ما يمكن قوله عن الاجابات من النوع الاول
احد العلماء الذين يتمسكون بالاجابات من النوع الثاني هو مايكل جليسنان (3)الذي يؤكد (مثله مثل الزين )و خاصة في كتابه التعرف على الاسلام(4)
انه لا يمكن للانثروبولوجي ان يخرج من نطاق اهتماماته اي شكل من اشكال الاسلام على اساس انه ليس الاسلام الحقيقي. وفي الواقع فغن اقتراحه ان الاشياء المختلفة التي يعتبرها المسلمون انفسهم اسلامية لابد وان توضع في اطار حياة و تطور مجتمعاتهم ذاتها هي قاعدة سوسيولوجية معقولة. لكنها لا تساعد في تحديد و تعريف الاسلام بوصفه موضوعا للدراسة و التحليل. والفكرة التي تبناها من انثروبولوجيين آخرين- الا وهي ان الاسلام هو ما يقول المسلمون في كل مكان انه هو-لن تفيد على الاطلاق. ولو لان هناك في كل مكان من المسلمين من يقول ان ما يفعله الكثير من البشر على اساس انه اسلام ليس من الاسلام في شيء. و لا يمكن حل هذه المعضلة بالقول ان ما هو الاسلام سيقدم المخبر الى الانثروبولوجي من خلال معتقدات و ممارسات الاول لانه من المستحيل بصفة عامة تحديد الممارسات والمعتقدات عبر مصطلحات موضوع منعزل. ان معتقدات المسلم عن معتقدات الآخرين وممارساتهم هي ببساطة معتقداته الخاصة. ومثلها مثل كل المعتقدات الاخرى فهي تنبثق و تستمر من خلال العلاقات الاجتماعية مع الآخرين.
و لنلتفت الآن الى الاجابة من النوع الثالث .
من اكثر المحاولات طموحا في هذا الصدد سنجد كتاب ارنست جلنر (5)المجتمع المسلم(6)حاول جلنر في هذا الكتاب ان يقدم نموذجا انثروبولوجيا يمثل الطرق المميزة التي تتفاعل بها البنية الاجتماعية و المعتقد الديني و السلوك السياسي مع بعضها البعض في اطار كليانية اسلامية. وفي يلي ساعالج هذا النص في شيء من التفصيل. لكن غرضي ليس تقييم هذا العمل في ذاته. لكن بالاحرى استخدامه لاستخلاص المشاكل النظرية لكتابة انثروبولوجية للاسلام. و سنجد كما يحدث دائما العديد من العناصر التي قدمها جلنر في كتابات اخرى لانثروبولوجيين و مستشرقين و علماء سياسة و صحفيين. ومن ثم فان فحص هذا النص يجعل المرء ينظر الى اكثر من موضوع منعزل. لكن الصورة التي يقدمها هذا النص اقل اهمية من الطريقة التي قدمت بها- اي الفرضيات التي تستخلصها و المفاهيم التي تستخدمها
2
في الواقع سنجد في نص جلنر اكثر من محاولة لطرح اطار مفاهيمي للاسلام. تتضمن اول المحاولات تلك مقارنة و اضحة بين النصرانية و الاسلام. و كل منهما ينظر اليه بوصفه تشكيلات تاريخية مختلفة من السلطة و الايمان ، واحدهما يقع في اوروبا اساسا والآخر في الشرق الاوسط. وهذا البناء المفاهيمي بناء محوري في الاستشراق. لكننا نجده بشكل ضمني في كتابات العديد من الانثروبولوجيين المحدثين.
و احد علامات هذا مثلا هو واقعة ان المراجع الانثروبولوجية المتخصصة في الشرق الاوسط مثل جوليك (7)او ايكلمان(8)تخصص
فصل الدين للاسلام فقط . وبالرغم من ان اليهودية والنصرانية من الديانات المحلية في المنطقة فيبدو ان الانثروبولوجيين الغربيين مهتمون فقط بمعتقدات المسلمين وممارساتهم. ومن ثم سنجد ان اليهودية السفاردية(9) و النصرانية الشرقية(10)تهمشان في الدراسات الانثروبولوجية الغربية وتقدمان على انهما فروع صغيرة موجودة في الشرق الاوسط من شجرة تاريخ نمت وترعرعت في مكان آخر اي في اوروبا و عند الجذور الاساسية للحضارة الغربية.
و ما يضايقني حقا فيما يتعلق بهذه المقولة عن كون اوروبا هي الموقع الحق للنصرانيةو ان الشرق الاوسط هي الموقع الحق للاسلام لا يكمن اساسا في الاعتراض القديم على تقديم الدين بوصفه لب التاريخ و جوهر الحضارة (وهو الاعتراض الذي طرحه العديد من المستشرقين مثل بيكر (11)منذ امد بعيد). مشكلتي كانثروبولوجي هي في الطريقة التي يؤثر بها هذا الطباق الخاص على الصياغة المفاهيمية للاسلام.
لننظر على سبيل المثال في الفقرة الافتتاحية لكتاب جلنر. سنجد هنا الطباق بين الاسلام والنصرانية في صورة جلية واضحة شائعة: الاسلام هو النمط الاولي لنسق اجتماعي . وهو يرى ان ثمة منظومة من القواعد الازلية الموحاة من السماء والخارجة عن ارادة البشر و التي تنظم النسق الصحيح للمجتمع.... و النصرانية واليهودية هما ايضا نمطان اوليان لمجتمع ولكن بدرجة اقل من الاسلام.فمنذ ميلاد النصرانية وهي تحتوي على توصية مفتوحة باعطاء مالقيصر لقيصر. و الايمان الذي يبدء و يظل لفترة ما بدون سلطة سياسية لا يمكنه الا ان يؤقلم نفسه مع النسق السياسي الذي لا يسيطر عليه هذا الايمان ولو الى حين.كان على النصرانية التي ازدهرت بين المحرومين سياسيا لم تفترض انها القيصر. و لذا تبقى معها دائما نوع من امكانية التواضع السياسي منذ هذه البدايات المتواضعة....لكن النجاح الاولي للاسلام كان سريعا جدا لدرجة انه لم يكن في حاجة لاعطاء اي شيء لقيصر.
ولو قرء المرء بعناية ما قيل ها هنا فلابد ان تعتريه شكوك عدة متنوعة.فماذا عن التاريخ الطويل الذي بدء مع قسطنطين حيث حاول القادة النصارى سواء الاباطرة او الملوك او الامراء العاديون او الاداريون الكنسيون اوالمصلحون الكنسيون او المبشرون الاستعماريون ان يستخدموا السلطة بدرجات مختلفة لخلق الظروف الاجتماعية التي بها يحيا الرجل والمرأة حياة مسيحية حقة او يحافظوا على هذه الظروف كما هي- هل هذا التاريخ برمته لا علاقة له بالنصرانية؟؟؟؟ و بوصفي غير مسيحي لن افترض ان لاهوت التحرير (12) اوالاغلبية الاخلاقية(13) لا يمثلان جوهر المسيحية. بيد اني بوصفي انثروبولوجي اجد من المستحيل قبول ان الممارسات المسيحية و الخطاب المسيحي طوال التاريخ كانا اقل انشغالا باستخدام القوة السياسية لاغراض دينية من الممارسات و الخطاب الاسلامي.
واود ان اوضح اني لا اعارض من حيث المبدء عقد المقارنات بين التواريخ النصرانية و الاسلامية. وفي الواقع احد اهم الخصائص المميزة لكتاب فيشر الجديد عن ايران(14) هو ادماجه مادة وصفية من التواريخ اليهودية والنصرانية في خلال شرحه لنسق المدرسة. وتلك هي احد الدراسات الانثروبولوجية المعدودة للاسلام المعاصر والتي تستخدم مقارنات ضمنية مع التاريخ الاوروبي و من ثم تغني فهمنا .
لكن على المرء ان يتجاوز مرحلة رؤية المتشابهات مثلما فعل فيشر و ان يحاول استكشاف الاختلافات بشكل منهجي. ولهذا السبب فقد تركزت ابحاثي في الاعوام الثلاثة الماضية (15) على تحليل شعائر الاديرة و عقيدة الاعتراف و فترة التحقيق في اوروبا الغربية في القرن الثاني عشر تحليلا انثروبولوجيا مفصلا و كلها ظواهر تختلف اختلافا بينا عن الظواهر التي تربط بين الدين والسياسة في الشرق الاوسط في القرون الوسطى. ومن الملحوظات المهمة واقعة ان النصارى واليهود قد شكلوا دائما جزءا لا يتجزء من المجتمع الشرق اوسطي و بشكل لا ينطبق على حالة التجمعات غير المسيحية في اوروبا. و حجتي هنا ليست الحجة المشروعة و الشائعة القائلة بان الحكام المسلمين كانوا بصفة عامة اكثر تسامحا تجاه رعاياهم من غير المسلمين بالمقارنة مع الحكام النصارى مع رعاياهم من غير النصارى،لكن ببساطة ان السلطات القروسطية سواء كانت نصؤرانية او مسلمة(وسواء كانت دينية او سياسية) كانت لها ستراتيجيات جد مختلفة لاخضاع رعاياها اخضاعا معنويا و ضبط الدولة. هذا موضوع طويل ويخرج عن مقامنا هذا لنه يستحق ان نلتفت اليه كمجرد مثال توضيحي.
يلاحظ المؤرحخون المحدثون ان العلماء المسلمين في العصور الكلاسيكية و ما بعد الكلاسيكية لم يظهروا ادنى اهتمام بالمسيحية ، وان هذا الاتجاه السلوكي عندهم كان مختلفا تماما عن سلوك نظرائهم النصارى الذين اظهروا اهتماما حقيقيا بالمعتقدات و الشعائر للاخرى وليس الاسلام فقط. ما هو سبب اللامبالاة العلمية هذه تجاه الآخر؟ التفسير الذي يقدمه المستشرقون مثل برنارد لويس(16)هو ان النجاحات العسكرية المبكرة للاسلام قد ادت الى توليد اتجاها سلوكيا لا مباليا مملوء بالاحتقار تجاه اوروبا المسيحية. "اعماهم جبروت الامبراطورية العثمانية العسكري فظل اهل الاسلام حتى فجر العصر الحديث يعتقدون اعتقادا راسخا -مثل العديد من البشر في الشرق والغرب اليوم-ان حضارتهم تتفوق تفوقا لا ينازع على غيرها من الحضارات. كان المسلمون في القرون الوسطى من الاندلس حتى بلاد فارس يرون اوروبا المسيحية باعتبارها منظقة مظلمة بربرية غي مؤمنة ولا داعي لن يخشاها العالم الاسلامي الذي يعمه النور و لا يحتاج لان يتعلم منها"ربما كان الامر كذلك لكن افضل طريق لمقاربة السؤال الذي طرحناها هو قلبه رأسا على عقب فلا نسأل لماذا لم يع الاسلام اوروبا ولكن لماذا كان النصارى الرومان مهتمين بمعتقدات وشعائر الشعوب الاخرى؟ و الاجابة لا تتعلق كثيرا بالدوافع الثقافية التي يقال انها نتيجة خصال داخلية كامنة في رؤية خاصة للعالم ولا تتعلق ايضا بالخبرة الجماعية الناتجة عن المقابلات العسكرية ولكنها تتعلق كثيرا ببنية ممارسات نظامية تدعو الى طلب نوعا من المعرفة النسقية. فبالمثل لم يذكر ان المجتمعات النصرانية المحلية التي عاشت بين المسلمين في الشرق الاوسط كانت مهتمة باوروبا و ايضا قام التجار والرحالة المسلمون بالكتابة كثيرا عن مجتمعات افريقية و اسيوية. ليس من الفطنة ان نفكر في الاتجاهات السلوكية المتقابلة بين الاسلام و المسيحية حيث نجد "لا مبالاة متجسدة "في مواجهة "روح تواقة للمعرفة و العلم " . بدلا من ذلك على المرء ان
يبحث عن الظروف المؤسسية التي ادت لانتاج اشكالا متنوعة من المعرفة الاجتماعية. ما هو هذا الشيء الذي كانوا ينظرون اليه على انه امر جدير بالتسجيل فيما يخص عادات و معتقدات الآخر؟ ومن كان يسجلها؟ وفي اي مشروع اجتماعي كانت تلك السجلات تستخدم؟؟ ومن ثم سنجد انه ليس من قبيل الصدفة ان اكثر الوثائق دقة فيما يخص المعتقدات الوثنية و الشعائر التي يمارسها الوثنيون هي تلك الموجودة في الخماسيات(وهي تلك الكراسات التي تعلم كيفية تقديم الاعتراف المقدس للمتحولين حديثا الى النصرانية) و ان يوميات المحققين العديدة في نهايات القرون الوسطى الاوروبية تصف بدقة متناهية و استفاضة وافية شعائر و معتقدات الهراطقة. ولا يوجد في المجتمعات المسلمة شيئا يماثل هذه السجلات الضافية المحتوية على معرفة منظمة مفصلة عن غير المؤمنين في المجتمع
وهذا ببساطة لان الانساق التي كانت تطلب و تحتاج هذه السجلات غير موجودة في الاسلام.بعبارة اخرى تختص كل بنية سلطة اجتماعية باشكال معينة لانتاج المعرفة و هذه الاشكال تختلف ليس نتيجة لاختلاف جوهري في طبيعة الاسلام او المسيحية ولكن نتيجة انساق اجتماعية متغيرة وفقا للسياق التاريخي.
و من ثم فخلف شكي في دقة و اهمية المقابلات التاريخية باستخدام دوافع ثقافية مثل "امكانية كامنة للتواضع السياسي"على جانب او "الامكانية الثيوقراطية"على الجانب الآخر يكمن هم آخر وهو تحديدا انه قد تكون هناك فروق هامة على الانثروبولوجي ان يدرسها حين يقوم بدراسة مجتمعات اخرى و قد تنطمس بسهولة عند البحث عن فروق و اختلافات سطحية او بلا اهمية. ليست مشكلة المقابلة التي اجراها جلنر بين الاسلام و النصرانية ان العلاقة بين الدين و السلطة السياسية ليست واحدة في النسقين. لكن بالاحرى ان المصطلحات المستخدمة في ذاتها مضللة و علينا ان نجد مفاهيم اكثر ملائمة لوصف الفرو ق و الاختلافات.
3
حتى الآن لم نفعل الا القاء نظرة سريعة على احد جوانب محاولة انتاج علم انثروبولوجية للاسلام: الا وهي التطابق الافتراضي بين الاسلام والشرق الاوسط. وتعريف تاريخ المسلمين انه صورة المرآة (جلنر)للتاريخ المسيحي. حيث تنعكس العلاقة بين الدين والسلطة بكل بساطة. وهذه النظرة تستحق النقد لانها اولا لا تغفل العمل المضن المفصل لانساق السلطة النظامية في التاريخ المسيحي و ثانيا لانها غير كافية على الاطلاق لتقديم تفسير نظري مقبول. و انا لا اهاجم محاولة تقديم تصورا عموميا عن الاسلام ولكني ارفض الكيفية التي تم بها هذا التصور النظري العمومي. و سيدرك اي عمل حول انثروبولوجية الاسلام ان ثمة تنوع ملحوظ في معتقدات و شعائر المسلمين. و من ثم فاول مشكلة تواجه المرء هي مشكلة تنظيم هذا الاختلاف و التنوع باستخدام مفاهيم ملائمة. و التمثيل الشائع للاسلام بوصفه دمج بين الدين والسلطة ليس من هذه المفاهيم الملائمة. ولكن ايضا ليس من الملائم قبول المفهوم التقليلي الذي يرى كل فرق صغير في ما يسمى الاسلام بوصفه متفرد و يستحق الدراسة في ذاته.
و احد الطرق التي حاول الانثروبولوجيون استخدامها لحل مشكلة التنوع هي تبني وجهة المستشرقين القائلة بالتفرقة بين الاسلام الاورثوذوكسي و الاسلام ير الارثوذوكسي و وضعها في فئات التقليد الاعظم والتقليد الاقل ومن ثم تحضر للتفرقة التي تبدو اكثر مقبولا وموائمة بين الايمان الكتابي النصي التطهري الذي يميز اهل المدن و الايمان الشعائريالذي يقدس الاولياء الموجود في الارياف. و بالنسبة للانثروبولوجيين لا يستحق اي من الشكلين ان يدعي لنفسه احتكار كونه الاكثر تمثيلا لحقيقة الاسلام من الآخر. فهما ما هما عليه و قد تشكلا في ظروف مختلفة. وفي الواقع ينظر الى ديانة الريف بوصفها شكلا واحدا فقط من منظور مجرد مقارن.و بالتحديد لان هذه الديانة خذات خصوصية عالية في ذاتها و ذات جذور راسخة في ظروف محلية متغيرة و ترتبط بشخصيات متعددة و تستمد سطوتها على الناس من التقليد الشفاهي غير الموثق ومن ذكريات لا يمكن التحقق منها فإن اسلام اهل الارياف غير المتعلمين متغير بشدة ومتنوع جدا. ومن ثم فإن الارثوذوكسية في الاسلام بالنسبة الى هؤلاء الانثروبولوجيين هي مجرد صنف واحد (بالرغم من كونه ثابت) من بين اصناف متعددة من الاسلام و تتميز باهتمامها الشديد بالنظام و القانون و تستمد سطوتها من نصوص ربانية وليس من افراد ربانية.
و قد شاعت هذه التصنيفة الثنائية عن طريق انثروبولوجيين شهيرين درسا الاسلام في المغرب هماكليفورد جيرتز(17) و ارنست جلنر و تلاميذهما من بعدهما. لكن ما جعلها مثيرة هي الحجة الاضافية القائلة بان ثمة علاقة واضحة بين هذه الازدواجية في الاسلام و بين نمطين محددين من انماط البناء الاجتماعي وهي الحجة التي كان اول من طرحها هم الباحثون الاستعماريون الفرنسيون في المغرب. تدعي هذه الحجة ان المجتمع المغربي يتكون من جانبين . في جانب التنظيم المركزي الهرمي الموجود في المدن و على الجانب الآخر التنظيم الانقسامي المتساوي للقبائل المحيطة بالمدن. و المدن يحكمها حكام يحاولون دائما وابدا اخضاع القبائل المتمردة التي تحكم ذاتها و من جانبهم يقاوم رجال القبائل هذه المحاولات بدرجات متفاوتة من النجاح. وينجحون احيانا عند توحدهم تحت قيادة قائد ديني ملهم في ازاحة الحاكم الموجود. و تنطبق فئتا الاسلام السالفتان انطباقا حسنا على نمطي البناء الاجتماعي والسياسي : في المدن الشريعة و العادات المتنوعة عند القبائل والعلماء في الاولى و الاولياء في الآخرة..وينطر للبنائين بوصفهما جزء من نسق واحد لانهما يحددا القطبين المتعارضين اللذين هما في صراع لا يتوقف من اجل الهيمنة السياسية . و بتحديد اكثر لان كا من سكان المدن و رجال القبائل هم من المسلمين. و كلهم يدينون على الاقل بالولاء ولو الاسمي للنصوص المقدسة ( ومن ثم ولو ضمنيا لسدنتها المتبحرين في العلم) ومن ثم ينبثق نوع محدد من الصراع السياسي. حيث من المتاح لحكام المدن ان يحاولوا فرض سلطتهم على رجال القبائل ومن المتاح للقبائل في المقابل ان يدعموا قائد مقره الريف يهدف الى الاطاحة بالحاكم الموجود و كلا الامرين تحت راية الاسلام.
و قد اضاف جلنر لهذا التخطيط العمومي الواسع الذي انتجه علم اجتماع الاسلام عند الفرنسيين وفي ادبيات متوالية عدد من التفاصيل تعتمد على عدة نقاط
(1)علوم اجتماع الاديان الكلاسيكية
(2) مقدمة ابن خلدون
(3) الكتابات الانثروبولوجية البريطانية عن نظرية (18)السلالة الانقسامية
وقد مدها على استقامتها لتغطي كل شمال افريقيا و الشرق الاوسط و ربما كل فترة التاريخ الاسلامي تقريبا. و قد استخدم النموذج الناتج و استخدمه آخرون لتوضيح التقابل القديم بين المسيحية والاسلام في عدة دراسات وكمثال عليها هذا المقتطف الدال من (19) بريان ترنر:
"ثمة قدر كبير من المعقولية في قولنا ان انه بالنسبة للدين (كان شاطيء المتوسط المسلم الجنوبي بمثابة صورة المرآة للشاطيء الشمالي لاوروبا) فعلى الشاطيء الشمالي نجد ان التقليد الديني المركزي هرمي شعائري وله جاذبية خاصة تجاه الريف. واحد الاركان الاساسية للديانة الرسمية هي القديسين. بينما الديانة المنحرفة الاصلاحية تنزع اليى المساواة و لتطهر و تلغي الوساطة المعزوة للقديسين. على الساحل الجنوبي يعكس الاسلام هذا النمط: فالتقليد المنحرف هو التقليد القبائلي الريفي وهو هرمي و شعائري. وبالمثل فالقديس والولي هما صورة المرآة لبعضهما البعض فيما يتعلق بدور كل منهما. فبينما نجد في المسيحية القديسين اورثوذوكسيين و موتى و قد رسمتهم السلطات المركزية ، نجد انه في الاسلام الشيوخ متنوعين قبائليين او مرتبطين بالقبائل و على قيد الحياة و قد تكرسوا عبر القبول المحلي"
وحتى لو كانت هذه الصورة تنطبق على المغرب فقد تعرضت لنقد عنيف من قبل باحثين ذوي اطلاع على المصادر الاصلية التاريخية بالعربية مثلكورنل(20) و(21) حمودي
وهذا النوع من النقد جد مهم لكني لن اتطرق اليه هنا. و بالرغم من ان السؤال عن مدى انطباق هذه الرؤية الانثروبولوجية للاسلام على العالم الاسلامي برمته ( او حتى على المغرب) بالنظر للوقائع التاريخية المثبتة و المتاحة هو سؤال مقبول معقول، الا انني لن اتطرق ايه كما قلت فدعونا نركز على موضوع آخر : ما هي الاساليب المكررة المستخدمة هنا لتمثيل:
أ- التغيرات التاريخية في البنية السياسية للاسلام و
ب- الاشكال المختلفة من الدين الاسلامي المرتبطة بهذه التغيرات التاريخية؟ ماهي انواع الاسئلة التي تبعدنا عنها هذه الاساليب و تمنعنا من النظر فيها؟ وماهي المفاهيم التي نحتاج لتطويرها لاجل ان نتقصى تلك الاسئلة المختلفة تماما و بطريقة حقيقية؟؟؟
عند مقاربة هذا الموضوع دعونا نضع في الاعتبار النقاط المتشابكة التالية:
أ-لابد ان تحاول السرديات المعنية بفاعلين ثقافيين محددين ان تترجم و تمثل الخطابات في سايقاتها التاريخية التي طرحها اولئك الفاعلين كرد على خطابات الآخرين بدلا من رسم افعالهم رسما تخطيطيا مجرد يؤدي الى نزع تاريخيتهم و الغاء وجودهم في سياق تاريخي محدد
ب- لابد ان تركز التحليلات الانثروبولوجية للابنية الاجتماعية على الانماط المتغيرة من العلاقات المؤسسية و الظروف التي تولدت فيها وعنها "وخاصة تلك التي نسميها ظروفا اقتصادية سياسية"لا على الفاعلين التقليديين
ج-يختلف تحليل الاقتصاديات السياسية عن تمثيل الدراما التاريخية الاسلامية في الشرق الاوسط اختلافا بينا جليا . وكل منهما تمرين على نوع مختلف من انواع الخطاب ولا يمكن ان يحل احدهما محل الآخر. بالرغم من انهما قد يكونا متواجدين بعمق في نفس السرد و هذا تحديدا لانهما خطابان!!
د-من الخطأ تمثيل انواع الاسلام بوصفها ترتبط بانواع من الابنية الاجتماعية على اساس المقارنة الضمنية بين البناء الفوقي (العقيدي او الايديولجي) و القاعدة (الاجتماعية) له.
ه- لابد من مقاربة الاسلام بوصفه موضوعا انثروبولوجيا ينبغي فعهمه بوصفه تقليدا خطابيا يرتبط اساسا بتكوين النفس الاخلاقية و تنظيم البشر او مقاومة هذا و انتاج المعرفة الملاءمة.
4
لو قرء المرء نصا انثروبولوجيا مثل نص جلنر قراءة متأنية قد يلاحظ ان الابنية الاجتماعية والسياسية في المجتمع المسلم الكلاسيكي تمثل بشكل محدد جدأ. وفي الواقع فان ما يجده المرء هو ابطال دراميين في صراع درامي . القبائل المنقسمة تواجه الدولة المركزية. البدو الرحل المسلحون يتوقون للمدينة و التجار العزل يخشون الرحل . و يتوسط الاولياء بين الجماعات القبلية المتصارعة وايضا بين الرحل الاميين و الاله البعيد ذو النوات. ويخدم رجال الدين المتعلمين حاكمهم القوي و يحاولون الحفاظ على القانون الربانيو تستخدم البورجوازية التطهرية الدين للحفاظ على مكانتها المتميزة. ويبحث فقراء المدن عن الاستمتاع في الدين. و المصلحون الدينيون يوحدون المحاربين الرعاة ضد الاسر المنهارة. و ينهار الحكام المرتعدون عبر زوال الوهم عن رعاياهم المدنيين الذين يتحالفوا مع القوة الدينية والعسكرية لاعداءهم من القبائل. وينزع التمثيل الذي يرى البنية الاجتماعية بوصفها مفاهيم لادوار درامية الى استبعاد المفاهيم الاخرى التي سنعود اليها قريبا جدا. لكن حتى السرد المختص بالفاعلين التقليديين يتطلب عرضا للخطابات التي توجه السلوك و التي يمكن تمثيل هذا السلوك فيها او اساءة تمثيله عبر تفاعل الفاعلين مع بعضهم البعض. في المسرحية بالمعنى المحدد سنجد ذه الخطابات في السطور التي يلقيها الممثل. بيد ان سرد جلنر يفتقد تماما لاي خطاب داخلي محلي
الفاعلون الممثلون الاسلاميون عند جلنر لا يتكلمون ولا يفكرون و انما فقط يتصرفون. و بدون ادنى دليل يعزي السلوك "العادي "و الثوري"لابطال الدراما وافعالهم في المجتمع المسلم الكلاسيكي. بالتأكيد ثمة مراجع في النص تشير الى "شركاء يتكلمون بنفس اللغة الاخلاقية"لكن من الواضح ان هذه التعبيرات هي مجرد تشبيهات باهتة لان مفهوم جلنر للغة انها مجرد وسيط يمكن عزله عن عملية الصراع السلطة". في سياق وصفه لعملية دوران النخبة "ضمن بنية لاتتحرك"يكتب على سبيل المثال "
"يوفر الاسلام لغة مشتركة ومن ثم نوعا من السلاسة في عملية قدحدثت او في طور الحدوث على اية حال و لو بشكل اصم واكثر وحشية"بعبارة اخرى لو نزع المرء لغة الاسلام المشتركة لن يتغير اي شيء ذي بال. ليست اللغة الا مجرد اداة لتيسير الهيمنة الموجودة في الواقع. هذه النظرة التي ترى اللغة بوصفها مجرد اداة غير كافية على الاطلاق- وهي غير كافية تحديدا ولا ملائمة اساسا لهذا النوع من السرد الذي يحاول ان يصف المجتمع المسلم باستخدام مصطلحات الدوافع التي تحرك الفاعلين المحددين على مستوى ثقافي. فقط عندما يضع الانثروبولوجي في اعتباره الخطابات المحددة تاريخيا و خاصة عندما يضع في اعتباره الطريقة التي يشكلون الاحداث من خلالها، يمكن طرح الاسئلة الخاصة بالطرق المتنوعة التي عالج بها الحكام المسلمين ورعاياهم مشكلة السلطة اوالقوة المادية او الاقناع او حتى مجرد العادات.
من المثير التفكير في واقعة ان جيرتز الذي ينظر اليه عادة على انه مهتم اساسا بالمعنى الثقافي مقارنة بجلنر الذي ينشغل بالعلية الاجتماعية قد قدم في كتابه نظرة على الاسلام(22)
رؤية لا تختلف كثيرا عن رؤية الاخير. فكليفورد جيرتز(23) ينظر الى الاسلام نظرة درامية ايضا وفي الحقيقة لانه يدرك تماما اسلوبه الادبي الفخم فقد لجأ كثيرا الى استخدام تشبيهات مستقاة من المسرح السياسي. لقد صور السياسة الاسلامية في المغرب الكلاسيكي و اندونيسيا الكلاسيكية تصويرا جد مختلف في كل حالة ، لكن كل حالة وبطريقتها الخاصة هي صورة مسرحية. بيد انه بالنسبة لجيرتز مثلما الحال مع جلنر يتم التنظير للاسلام بوصفه دراما السلطة الدينية نتيجة حذف الخطابات الداخلية المحلية و نتيجة تحويل كل السلوك الاسلامي الى ايماءة يمكن قراءتها.
5
تخيل سرديات عن تعبيرات و نوايا الممثلين في الدراما الانسانية ليس الاختيار الوحيد المتاح للانثروبولوجي. فمن الممكن الكتابة عن الحياة الاجتماعية او الكلام عنها باستخدام مفاهيم تحليلية. و بكل بساطة فان عدم استخدام هذه المفاهيم يعني الفشل في طرح اسئلة معينة و الخلط في اعادة بناء الابنية التاريخية.
و كمثال فلننظر في مقولة القبيلة. هذه الفكرة محورية بالنسبة لنوعية الانثروبولوجي التي يعتبر نص جلنر مثالا جليا عليها. وعادة ما يستخدمها الكتاب الذين يكتبون عن الشرق الاوسط للاشارة الى تشكيلات اجتماعية ذات ابنية مختلفة و انماط حياة مختلفة تماما. وعادة عندما لا يتعلق الامر بطروحات نظرية فهذا لا يؤثر كثيرا .لكن عندما يتعلق الامر بمثل هذه الطروحات مثلما هي الحال هنا فمن المهم النظر في التأثيرات المحتملة الناجمة عن الاستخدام غير الدقيق لمصطلح القبيلة.
لايقتصر الامر فقط على ان هذا المسمى "قبيلة"به تنوع هائل في البنية التكوينية ولكن الاهم خصوصا هو البدو الرعاة الرحل ليس لهم نمط اقتصاد تقليدي. و تنظيماتهم الاقتصادية الاجتماعية لها دلالات مختلفة اشد الاختلاف فيما يتعلق بامكانية انخراطهم في السياسة و التجارة و الحرب. وقد طالب العديد من الماركسيين مثل (24)بيري اندرسون
بايجاد مفهوم "نمط الانتاج الرعوي"و قد اتبعه بريان تيرنر فاقترح استخدام هذا المفهوم كجزء من الطرح النظري الواعي عن الابنية الاجتماعية الاسلامية لان دول الشرق الاوسط يستوطنها رعاة رحل اساسا
و فرضية ان الرعاة الرحل في الشرق الاوسط المسلم لهم بنية اقتصادية و سياسية نمطية واحدة هي فرضية مضللة. و الاسباب التي تدعونا لهذا القول عديدة ومتشابكة ولا داعي للنظر فيها هاهنا، لكن نظرة سريعة على الموضوع ستذكرنا بمفاهيم عن البنية الاجتماعية تختلف عن تلك التي ماتزال قيد الاستخدام من قبل العديد من الانثروبولوجيين والمؤرخين المتخصصين في الاسلام.
واي دراسة عن القدرات العسكرية للرحل الرعاة مقارنة برجال المدينة لابد وان تبدء ليس من واقعة بسيطة هي انهم رعاة رحل، ولكن من عدة من الظروف الاقتصادية و السياسية المتشابكة بعضها ذات طبيعة نظامية و بعضها غير ذلك.من بين الظروف التي يجب ان تؤخذ في الاعتبار نذكر انواع الحيوانات التي يرعونها و انماط الترحال الفصلية و اشكال التنظيمات الرعوية و حقوق المرعى و الوصول الى نقاط المياه و توزيع الثروة الحيوانية و درجة الاعتماد على العائد من الاتجار بالحيوانات و درجة الاعتماد على الزراعة من اجل الاعاشة و درجة الاعتماد على الهبات و النوافل و الفروض من من هم اعلى منهم في النسق السياسي او من هم اقل
كل هذه الظروف يجب اخذها في الاعتبار و غيرها كثير عندما نريد ان نفهم حتى الاسئلة الاساسية مثل كم رجلا تستيطع القبيلة جمعه للحرب و باي قدر من السهولة و الى متى؟؟
على سبيل المثال في منطقة صحراء شمال السودان التي درستها منذ عدة سنوات تغير ت امكانيات تجييش اعداد ضخمة من المقاتلين
تغيرا دراميا فيما بين منتصف القرن التاسع عشر و منتصف القرن العشرين نتيجة للزيادة الضخمة في الماشية الصغيرة و التحول نحو تدابير واشكال تنظيمية رعوية اكثر تعقيدا و التدخل بشكل اكثر في مبيعات الحيوانات وتغير نمط حقوق الملكية . المهم هنا ليس ان هذه التجمعات القبلية هي النمط السائد في الشرق الاوسط ، وفي الواقع لايوجد نمط سائد ولا قبائل نمطية. وكل ما اقوله هنا ببساطة هو ان كل مايتمكن الرعاة الرحل من فعله او كل ما يستطيعون فعله مقارنة بالسكان المستقرين هو نتاج لعدة ظروف تاريخية تحدد اقتصادهم السياسي و ليس تعبيرا عن بعض الدوافع الرئيسة التي تميز القيادات البطولية الدرامية في القبيلة في سياق دراما اسلامية كلاسيكية. بمعنى آخر لا يمكن النظر للقبيلة بوصفها وسيط ثابت مثلها مثل اي "ابنية متغيرة"او "مجتمعات". انها ابنية تاريخية تتحقق في اطار محدداتها حدود امكانيات وحيوات البشر. وهذا لايعني ان القبائل اقل حقيقية من الافراد الذين يكونوها لكن مفاهيم الدوافع والسلوك و الاقوال لا تنتمي بالتحديد الى اي منحى تحليلي يتعلق بالقبيلة بالرغم من ان هذه المفاهيم قد تتواجد ضمنيا في السرديات المتعلقة بالوساطة. و تحديدا لان القبائل لها بنية مختلفة باختىلاف الزمان والمكان فالدوافع و اشكال السلوك و الاقوال المستعارة ستختلف كذلك.
و لاغرابة ان الفلاحين لا مكان لهم في محاولات تمثيل المجتمع المسلم على اساس خطوط حبكة درامية مثيرة. فلامكان للفلاحين ولا للنساء في الملاحم فهم لايفعلون شيئا. في سردية مثل سردية جلنر لا يلعبون دورا دراميا و لا يعبرون عن تدينهم تعبيرا واضحا مقارنة بالقبائل البدو الرحل و سكان المدن. لكن متى ما يتحول المرء الى مفاهيم الانتاج والتبادل سيجد المرء ان بوسعه ان يسرد قصة اخرى. فالزراع سواء من الرجال او النساء ينتجون محاصيل (مثلما يرعى الرعاة من الجنسين الحيوانات ويربونها) وهم يبيعون تلك المحاصيل او يدفعونها ايجارا او مكوسا. و يلعب الفلاحون حتى في الشرق الاوسط التاريخي دورا هاما في ما يتعلق بالتكوين الاجتماعي في هذه المنطقة ولكن علينا ان نرى هذا الدور باستخدام مفاهيما سياسية اقتصادية وليس باستخدام مصطلحات درامية.ولقد حدثت تغيرات كبيرة مهمة في القطاع الزراعي القروسطي ادت الى نتائج ذات اهمية قصوى فيما يتعلق بتطورالسكان في المدن و فيما يخص تطور الاقتصاد النقدي و ايضا فيما يتعلق بالتجارة عبر القارة او التجارة الاقليمية. وهذا ينطبق ايضا على الحقبة التالية قبل الحداثية بالرغم من التواريخ الاقتصادية تتكلم عن التغيرات بوصفها سلبية ادت لانحدار وليس نمو. ولا يجب ان يكون المرء من المؤمنين بالحتمية الاقتصادية لادراك هذه التغيرات و ادراك ان لها تأثيرات عميقة فيما يتعلق بقضايا السيادة و الاستقلال. وهذه المقاربة التي تدرس المجتمع الشرق اوسطي وتعطي اهمية خاصة للاثر بعيد المدى للحدود غير الشخصية لها اهمية قصوى فيما يخص الروابط التي لا تنفصم او ايضا المتنوعة بين الاقتصاد الاجتماعي و السلطة الاجتماعية . و ستذكرنا باستمرار ان المجتمعات التاريخية في الشرق الاوسط لم تكن قط مكتفية ذاتيا و لم تكن ابدا معزولة عن العلاقات الخارجية و من ثم لم تكن ثابتة بلا تغيير ابدا وحتى قبل اندماجها في نسق العالم الحديث. وعلى عكس هؤلاء الرواة الذين يقدمون لنا شخوص ثابتة منلمسرحية اسلامية لا تتغير يؤدون ادوارا ازلية مقدرة مسبقا ، يمكننا البحث عن العلاقات و التغيرات و الفروق التي تتجاوز الحالة الثابتة لمسرجخحية اسلامية. ومن ثم لن نكتب عندئذ عن بنية اجتماعية اسلامية اساسية ولكن سنكتب بالاحرى عن تكوينات تاريخية في الشرق الاوسط عناصرها لم تندمج بالكامل و لكنها ايضا لم تكن محدودة قط بالحدود الجغرافية للشرق الاوسط.. فعادة ما يتناسى المرء ان مصطلح "العالم الاسلامي "ليس عمفهوما مغلقا مكتفيا بذاته وانا هو مفهوم لتنظيم السرديات التاريخية. و لايعني هذا ان السرديات التاريخية لا تؤثر تأثيرا اجتماعيا بل على العكس تماما . لكن تماسك واندماج العالم الاسلامي هو تماسك ايديولوجي بالاساس انه تمثيل خطابي. من ثم كتب جيرتز "ربما انطبق الامر معلى الحضارات مثلما ينطبق على بني البشر فمهما تغير المرء ستظل الا بعاد الاساسية في شخصيته ثابتة في اطار اللحظة التي تشكلت فيها"لكن قدرية الشخصية التي يتحدث عنها انثروبولوجيون مثل جيرتز تصلح مادة لكاتب روائي وليس كلا شعور مادة دراسية تقدم نفسها على انها الاسلام للباحث الغربي
6
انثروبولوجية الاسلام التي ننقدها هنا تعرض علينا بناءا اجتماعيا تقليديا يتكون اساسا من رجال القبائل و سكان المدن و هما الحاملان الطبيعيان لنوعين اساسيين من التدين-حيث يتمحور التدين القبائلي المعتاد حول الاولياء و المزارات و يرتكز التدين المديني السائد على الكتاب المقدس. و ما اقوله هنا هو انه ان اراد الانثروبولوجي ان يفهم الدين عبر وضع مفاهيمه في سياق اجتماعي فلابد إذن ان الطريقة التي نصف بها هذا السياق الاجتماعي ستؤثر على فهمنا للدين.
و من ثم فإن رفضنا طروحة البنية الثنائية السكونية في الاسلام و التي يدعو لها بعض علماء الانثروبولوجية و إذا اردنا ان نكتب عن الابنية الاجتماعية للمجتمعات المسلمة باستخدام مفاهيم الامكنة والازمنة المتداخلة بحيث يصير الشرق الاوسط بؤرة للتلاقي و التجميع (ومن ثم تنطرح علينا امكانية تعددية التواريخ) إذن لابد ان الطوبولوجية الثنائية تلك ستلوح غير مقبولة على الاطلاق.
و طبيعي ان ثمة اشكال ثانوية بالاضافة للفئتين الكبيرتين المقترحيتين من قبل هذه النوعية من الانثروبولوجية التي نناقشها. ونجد هذا في كتابات جلنر و الآخرين ايضا. ومن ثم سنجد الاسلام الثوري في مواجهة الاعتيادي عند القبائل و هو الذي يندمج في تطهرية الاسلام المديني و يعيد الروح له بشكل دوري. وثمة ايضا الاسلام الصوفي النشواني الذي نجده عند اهل الحضر الفقراء والذي يعمل "كأفيون للشعوب"(25) فيبعد هذه الجماهير عن المشاركة السياسية الفعالة حتى يحد1 تأثير الحداثة ويحول اسلام الجماهير الحضرية الى النمط الثوري. وبشكل مثير تعمل الانواع الثانوية كمؤشرات عند جلنر احدهما مؤشر ايجابي والآخر سلبي وهما يحددان حقبتي الاسلام العظميين- اي بعبارة اخرى يمثلان التوالي التقليدي في اطار البنية المصمتة الصلدة الثابتةو يوضحان التطورات العاصفة و التحركات الجماهيرية في العالم المعاصر.ومن ثم فأن التسليم الظاهري بوجود اكثر من نوعين من الاسلام ما هو الا حيلة ادبية لاعادة تدوير مقولتي المجتمع المسلم التقليدي والحديث
ملحوظة
الجزء الثاني مع الملاحظات واالتعليقات فيما بعد