عن مفهوم العقل
مقدمة
تكلمنا من قبل عن فكرة الخلط المفاهيمي المنتشر
و اشرنا الى ان هذا يؤدي الى الالتباس و انقطاع التواصل حتى انعدامه احيانا. و لكن هناك ايضا اشكالية اخرى هي ان المفاهيم كما اخبرنا فوكو
لها عمق تاريخي و انتشار جغرافي، ولذا فمن الاهمية بمكان ان ندرك السياق الجغتاريخي الذي نبت فيه المفهوم و كيفية استخدامه و تطوره و ارتحاله عبر الزمكان. وهذا لتجنب الالتباس و التلبيس.
ومن المفاهيم الملتبسة في تقديري مفهوم العقل و هو ما سنحاول بحثه هنا باختصار.
مفهوم العقل لغة
يقول ابن منظور في لسان العرب : «العقل مصدر عقل ، يعقل ، عقلا فهو معقول»
و يقول أيضا وأصل العقل يرجع إلى : الحجر والنهى
العقل هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان
و عقل الشيء يعقله عقلا فهمه
و يُقال : رجل عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه
و عقل الدواء بطنه أمسكه
فالعقل له عدة معاني في اللغة كلها تدور حول المنع والحبس و النهي.
مفهوم العقل عند المسلمين
لقد اختلف المسلمون في تعريف العقل اصطلاحا وذلك بسبب اختلاف المذاهب و الاقترابات ،وأهم المذاهب والاقترابات التي عرفت العقل : الفلاسفة والمتكلمين وأهل الحديث و المتصوفة
العقل عند أهل السنة والجماعة (اهل الحديث):المبحث الاول
يطلق شيخ الإسلام احمد بن تيمية مفهوم العقل على أربعة معان : الغريزة و العلوم الضرورية و النظرية والعمل بمقتضى العلم
فأما الأول : الغريزة ، يقول شيخ الإسلام :" الغريزة التي يعقل بها الإنسان ، وهذه مما تتنوع في وجودها ... والسلف والأئمة متفقون على إثبات هذه" و يقول أيضا "هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين" ، وبه قال الإمام أحمد
و الثاني : العلوم الضرورية أو البدهيات العقلية و هي التي يتفق عليها جميع العقلاء كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء إلى غيرها من البديهيات وهي علوم لا تحتاج إلى دليل لإقرارها وغير مكتسبة ولو لزم كونها تحتاج لبرهان لأفضى ذلك إلى التسلسل وهو محال
يقول ابن تيمية في تعريفه للمعنى الثاني للعقل :"علوم ضرورية يفرق بها بين المجنون الذي رفع القلم عنه ، وبين العاقل الذي جرى عليه العقل ، فهو مناط التكليف"
والثالث : العلوم النظرية ، وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال هي التي " تدعو الإنسان إلى فعل ما ينفعه وترك ما يضره"
والرابع : الأعمال التي تكون بموجب العلم . ومن هذا قول الله تعالى : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير) يقول ابن تيمية :" العمل بالعلم يدخل في مسمى العقل أيضا ، بل هو من أخص ما يدخل في العقل الممدوح"
المبحث الثاني العقل عند المتكلمين
اختلف المتكلمون في العقل وماهيته لتأثرهم الشديد بالفلسفة اليونانية فسلكوا مسلكهم في تعريفه و صنفوه إلى العقل الهيولاني الاستعداد المحض لإدراك المعقولات وهي قوة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال
والعقل بالملكة علم بالضروريات
و العقل بالفعل هو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث تحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت
و العقل بالمستفاد هو أن تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه
ومن أشهر أقوالهم
أن العقل جوهر مجرد
أن العقل صفوة الروح
ومن هذه الأقوال يتضح بجلاء مدى تأثر المتكلمين بمنهج الفلاسفة فقد عرَّف الباجي العقل بأنه : " العلم الضروري ، الذي يقع ابتداء ويعم العقلاء" ويلزم منه أن يكون الناس في عقولهم سواء ، وهو مذهب المعتزلة ، والأشاعرة ، ووافقهم ابن عقيل من الحنابلة ، وحجة المتكلمين في عدم تفاوت العقول واختلافها سببه تعريفهم للعقل بأنه مجموعة من البديهيات العقلية أو هو العلم الضروري .
المبحث الثالث العقل عند من قيل عنهم فلاسفة المسلمين
عندما نتكلم عموما عن الفلسفة الاسلامية نجد انفسنا منحصرين بين مشائية الفارابي وسلفه الكندي و اشراق ابن سينا و لذا آثرت عدم الخروج عن هذا التصنيف في هذا المقال بالرغم من اختلافي معه .
يذكر الفارابي عدة تعاريف للعقل معتمدا في ذلك علي كتب أرسطو ، فيذكر أن العقل عند الجمهور يوافق ما عناه أرسطو. التعقلويعرف العقل أيضا في آراء اهل المدينة الفاضلة "وأما العقل الإنساني الذي يحصل له بالطبع ... فانه هيئة ما في مادة معدة لان تقبل صور المعقولات "
ويختصر الكندي في رسائله الفلسفية تعريف العقل عند الفلاسفة المشائين بأنه جوهر مدرك للأشياء بحقائقها
ويخلص التهانوي إلي تعريف العقل بأنه ( هو الجوهر المجرد في ذاته وفعله ، أي لا يكون جسما ولا جسمانيا ) وهذا في كتابه كشاف اصطلاحات الفنون
ويطلق الفلاسفة علي العقل الإنساني في حالة الوجود اسم (العقل الهيولاني ) مثل العقل عند الطفل دلالة علي ان العقل صفحة بيضاء وهو مستعد لتلقي المعقولات
ولذلك يعرف الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات العقل بقوله ( العقل مجرد عن المادة في ذاته )
وفي هذا الاتجاه يقول ابن رشد في تعريف العقل " ان العقل ليس قوة جسمية كالحس وإلا لما استطاع أن يدرك غير صورة عقلية واحدة في وقت واحد ولا يستخدم أي عضو جسماني وبهذا يتميز من الحس"
المبحث الرابع العقل عند المتصوفة
يقول السهروردي الشهاب صاحب الحائية الشهيرة ابدا تحن اليكم الارواح في كتابه الكلمات الذوقية و النكات الشوقية الشهير باسم رسالة الابراج" ان فائدة التجريد سرعة الوصول في العود الى الوطن الاصلي والاتصال بعالم العقل." و يقول ابن العريف الاندلسي في كتابه محاسن المجالس " ولو لاحظ التكلفة لصحت المعرفة" و التكلفة هنا هي العقل من تكليف المرء شرعا. ويقول القشيري في كتابه نحو القلوب الكبير " فنحو القلوب القصد الى حميد القول باللب" و اللب هو العقل الاعلى كما ذكر احمد بن علي البوني في كتابه شمس المعارف.
القصد هنا ان المتصوفة على مختلف مدارسهم و مواردهم قد اتفقوا على رؤية للعقل متجاوزة لمفهوم العقل عند الفلاسفة او اهل الحديث او المتكلمين.
رؤية مختلفة للمفهوم
هل يمكننا من هذا التعريف السريع ان نتكلم عن رؤية متسعة للمفهوم تتجاوز رؤية الوضعية المنطقية و المذهب النقدي التجريبي الحداثية السائدة في عصرنا هذا؟؟؟
هل يمكن ان نتكلم عن عقل متجاوز وعقل محدود و دور للالهام و المحبة و التوق و الذوق؟
يقول ابن عطاء الله السكندري في كتابه لطائف المنن " فاضاء قمر التوحيد في بيداء التفريد فانطوت الكائنات في وجود ازليته" وهنا نجده يقدم المكان على الزمان ويتكلم عن طي الامكنة لاختصار الازمنة . هل نحن هنا امام نظرية الطي التي تتكلم عنها علوم الفيزياء الحديثة و تستخدمها افلام و مسلسلات الخيال العلمي كما في ناقلة النجوم
Star trek
؟؟؟
الله اعلم.